تاريخياً شكّلت كلٌ من الهند وإيران الشريكين التجاريين الرئيسيين لدول مجلس التعاون الخليجي، إذ جاءت معظم واردات دول المجلس، وبالأخص الغذائية، وعلى مدى عقود طويلة من هذين البلدين، كما أنهما استقطبا معظم السياح الخليجين لفترات طويلة، بما في ذلك السياحة العلاجية. وقد استمرت هذه العلاقات في النمو حتى نهاية السبعينيات من القرن الماضي، حين افترقت الطرق بالجميع تقريباً، وتفاوتت أهميتُهما لدول المجلس. فالهند، وبحكمة، استوعبت الأهميةَ الاقتصاديةَ المتزايدةَ لدول الخليج العربية واتخذت الكثير من الخطوات البنّاءة لتنمية هذه العلاقات، حيث تتناوب الهند حالياً مع الصين كشريك تجاري أول لدول المجلس.
وفي المقابل ساهمت أحداث إيران، نهاية السبعينيات، في تدهور علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع دول الخليج العربية، فتراجع التبادل التجاري وشهدت حركة النقل، بما فيها السياحة، شبه توقف على فترات متتالية، مما شكّل خسارةً كبيرة للموردين وقطاع الأعمال في إيران وللاقتصاد الإيراني ككل، في حين وجدت دول المجلس البديلَ بكل سهولة ويسر. واستمر هذا التدهور على مدى أكثر من أربعين عاماً.
والآن تشهد العلاقاتُ الخليجية الإيرانية تطورات دراماتيكية متسارعة بنوايا مشجعة من الطرفين، إذ لا توجد مدرسة يمكن التعلم منها أفضل من تجارب التاريخ، فخلال أربعين عاماً لم يستفد أحد من التوترات والصراعات، كما لم يتمكن أحدٌ ولن يتمكن مستقبلاً من تغيير الحدود أو تغيير التركيبات الديموغرافية أو العرقية والتي توفر في حالة توازنها أمكانياتٍ وقدراتٍ هائلة لتنمية التعاون الثنائي والجماعي الذي ستنعكس آثاره الإيجابية على كافة الأطراف.
وفي ظل توترات وصراعات عالمية خطيرة، تواردت تطورات إيجابية من منطقة الخليج العربي، تمثلت في الاتفاق بين السعودية وإيران برعاية صينية، وزيارة أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني على شمخاني لدولة الإمارات، ولقاء رئيس الوفد البرلماني الإيراني بمسؤولين رفيعي المستوى في البحرين.. حيث احتلت القضايا الاقتصادية والاستثمارية أهمية كبيرة، كما يتضح من تركيبة الوفود المشاركة في المباحثات والتي ضمت محافظي البنوك المركزية ووزراء الاقتصاد، بغية العمل على توفير الظروف الملائمة لهذا التوجه. وكما قال سمو الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان مستشار الأمن الوطني، فإن «الاتفاق السعودي الإيراني يلعب دوراً بنّاءً في توسيع السلام والاستقرار والأمن المستدام في المنطقة»، مضيفاً: «إن تنمية العلاقات الودية والأخوية بين أبوظبي وطهران من بين أولويات الإمارات». في حين شدد السيد علي شمخاني على أنه «يجب زن يحل التعاون والتقارب محل الخلافات والعداء». كما صرّح وزير المالية السعودي محمد الجدعان بقوله: «إن هناك فرصاً كثيرة للاستثمار في إيران وهذه الاستثمارات قد تتم بشكل سريع».
إذن هناك نوايا إيجابية لدى الطرفين لتجاوز سلبيات الفترة الماضية وتداعياتها التي فوتت فرصاً استثمارية مهمة وتعاوناً اقتصادياً بنّاءً، مع ما يشكله ذلك من خسائر تراكمت على مدى سنوات طويلة، حيث تتوفر حالياً فرص حقيقة للانتقال إلى مرحلة جديدة من التعاون وحسن الجوار واحترام خيارات كل طرف وسياساته الداخلية، وهي من الأسس اللازمة لبناء الثقة، إذ إن حل القضايا العالقة سيستغرق بعض الوقت لإيجاد الأرضية الصحيحة لتطوير التعاون الثنائي والجماعي في كافة المجالات، وبالأخص المجالات الاقتصادية التي تتوفر لها أمكانيات كبيرة ومجدية ستؤدي إلى إحداث نُقلة نوعية للتعاون والعلاقات المثمرة بين دول المجلس وإيران، كما سيجد له انعكاسات إيجابية على بقية دول الشرق الأوسط وشبه القارة الهندية.
ومع أن هذه ليست المرة الأولى التي تتم فيها عملية التقارب والتعبير عن النوايا الحسنة، إذ حدث ذلك في التسعينيات وبداية القرن الحالي، لكن الأمور لم تصل إلى خواتيمها لأسباب في مقدمتها التدخلات في الشؤون الداخلية، مما يعني أن بناء الثقة بين الأطراف على جانبي الخليج سيسبق التعاونَ الاقتصادي والتوجهات الاستثمارية، إذ لا يوجد استثمار وبناء اقتصادي لا تتوفر له بيئة من الأمن والاستقرار والهدوء والثقة. وفي حالة نجاح التوجه الجديد، سيشهد العالَمُ خليجاً مزدهراً على جانبيه، يوفر لشعوبه فرصَ العمل والمستويات المعيشية الجيدة والتنمية المستدامة. 

*خبير ومستشار اقتصادي