ما إنْ وصلنا إلى بحيرة جنيف حتى انطلقت ابنتي تمرح على الشاطئ، وبينما كنّا نحاول - زوجتي وأنا - الإحاطة بها.. راحت - ابنة الرابعة - تهرول في كل اتجاه، ثم إذا بها تقف عند مرسى لليخوت وتقدم استعراضًا فنيًا، كنتُ أشاهده للمرة الأولى.
في تلك الأثناء كان فيلسوف جنيف الكبير جان جاك روسو حاضرًا في ذهني، وكانت آراؤه في التربية لا تقل إلحاحًا على ذاكرتي من آرائه في السياسة. ولقد كانت وجهة نظره التربوية الشهيرة بضرورة الإقلال من حثّ الأطفال على الامتناع عن هذا، أو ترك هذا.. هى ما جعلتني أخفّف المواجهة وأقلل من التوجيه.
في مدينة جنيف لا يمكنك تجاهل ذلك الفيلسوف السويسري الكبير، فتماثيل جان جاك روسو، ومنزله في المدينة القديمة، والجزيرة الصغيرة التي تحمل اسمه.. وأحاديث السكان والزائرين عن السلطة والحرية.. كلها استذكار للرجل الذي ألهم الثورة الفرنسية، ولايزال واحدًا من أكبر الملهمين في العالم المعاصر.
ولد جان جاك روسو عام 1712 في سويسرا، ورحل عام 1778 في فرنسا. وعبر تلك الرحلة تقلبت حياته حتى صار واحدًا من رموز عصر التنوير الأوروبي. يعترف نابليون بونابرت بدورٍ كبير لروسو في تكوين الأساس الفكري للثورة الفرنسية، وبعد مرور أكثر من 300 عام لايزال روسو الذي تتقاسمه سويسرا وفرنسا، هو ذلك الفيلسوف الذي تنتمي إليه فلسفة الثورة.. من الحرية إلى الإخاء والمساواة.
بدأ جان جاك روسو حياته فاشلاً، كان مشاغبًا ومصدرًا للمتاعب العائلية، عمل روسو في مجال النقاشة، كما عمل سكرتيرًا للسفير الفرنسي في البندقية، وحاول أن يكون موسيقيًا كبيرًا.. قبل أن يصبح فيلسوفًا شهيرًا. ويعد كتابه العمدة «العقد الاجتماعي» هو القلب من مشروعه الفكري، وهو الكتاب الذي أسس لنظرية السلطة باعتبارها عقدًا بين الحكومة والشعب، لديها مسؤوليات العقد والتزاماته، وفيها مزايا البقاء ومخاطر الإخلال به.
يرى روسو أن الإنسانيّة قد تركت الحالة البدائية التي كانت عليها إلى الحالة الحضارية، وذلك باعتمادها القانون من أجل تقسيم العمل والملكية، وأن جوهر الحرية يكمن في تنازل الأفراد عن بعض حريتهم التي كانت في العصر البدائي في مقابل مزايا العضوية في مجتمع مدني، والإفادة من وجود السلطة والقانون.
ثمّة كتاب رائع للفيلسوف روسو لكنه لا يحظى بالقدر ذاته من الاهتمام، وهو كتابه «إميل» الذي يمثل واحدًا من كلاسيكيات الكتب التربوية.
في ذلك الكتاب يروي روسو بأسلوب أدبي أخّاذ ما يجب أن تكون عليه تربية الأطفال.. والتي تتلخص في وجوب احترام الطفل، وإتاحة الفرصة له لكي يتعلم بالتجربة وليس بالتلقين وحده، وكذلك الإقلال من خطاب المنع والقمع واستخدام الحوار والاحترام. ولقد كان روسو سبّاقًا في الإشارة إلى دور «الشلّة» في التربية، حيث يتعلم التلميذ من زملائه أكثر مما يتعلم من المدرسة.. وهنا يتوجب الانتباه إلى متابعة مؤسسة الصداقة.. الأكثر تأثيرًا في التربية.
يحتاج الجانب التربوي من جان جاك روسو إلى إعادة إحياء، فلقد طغى «العقد الاجتماعي» على «إميل».. وغطت السياسة على التربية.
* كاتب مصري