يحتفل المسلمون كل عام بشهر التقوى، والتّقوى لغوياً هي «تَفْعِلَة من وقى يقي، إذا اتخذ وقاية، وهي الستر». والتّقوي اصطلاحاً هي هذه العملية النّفسية والعملية التي يتحرك بها المرء، يروم تزكية النّفس واتقائها أن يدنسها غُلوّ الهوى. والغرض الذي من أجله جعل الدين التّقوى هدفاً له أن التقوى هي صحّة النّفس، بعبارة ابن رشد الفيلسوف، وكلما صحّت أنفس الأفراد كان ذلك موجباً لصحّة المجتمع، وصحّة علاقاته الإنسانية. ولأهمية التقوى جُعلت العبادات سببا لها، إذ تكرار العبادات وسيلة مهمة في تحقيق هذه الخُلّة المنشودة، ومن هنا أهمية عبادة الصيام، الذي كثر الحث عليه في سنة النبي، ومن هنا أيضاً أهمية شهر الغفران في حياة المسلمين، إذ شهر رمضان هو المجسد الأكبر لفضيلة التقوى في أيامهم المعدودات على الأقل. ومن هنا الدعوة إلى الصيام لما تعقبه من صحة جسم ونفس وقرب.
والصيام سُنة الأمم السابقة على الإسلام، وقد تسرب إلى الفلسفات القديمة من بقايا الأديان الاهتمام بالصوم، فاعتنت الفلسفة عبر تاريخها بهذا الضرب من النواميس لأنها مجلبة للفضائل، وبخاصة فضيلة التّقوي التي عبرت عنها الفلسفة تعبيرات مختلفة يلتقي فيها ترك الحظوظ، مع مخالفة النفس، على أساس «أن القلب إذا تطهّر عن علاقة البدن المحسوس وتجرد للمعقول، انكشفت له الحقائق»، كما عبر عنه ذلك أبو حامد الغزالي حاكيا مذهبهم. فهذه فلسفة أفلاطون قائمة على مفهوم التّطهير الذي هو تعبير فلسفي عن مفهوم التزكية، إذ الفيلسوف في طريقه إلى الكمال الإنساني الذي ينشده لابد له من أن يجعل قوته النّاطقة حاكمة على قوتيه الشهوية، والغضبية، والسبيل إلى ذلك رياضة عملية ونفسية تروم تطهير النفس من غلوّ الشهوة. وجعل أرسطو تزكية النفس في «حياة التأمل»، وأعلى من فضيلة العفة، وجعلها رابع أمّات الفضائل. وبلغ الأمر عند أفلاطون ذروته حين زعم أنه «خلع بدنه مرتين»، رمزاً على بلوغه درجة من «التقوى» مكنته من التخلص التام من نوازعه الشّهوانية، بل الحسية أيضاً.
إن أهمية العبادات في جميع الأمم غرضها تثبيت الفضائل، ومن أهمّها فضيلة التقوى أو العفة التي جُعل الصّيام جالباً لها، مُذكّراً بها، ومُثبتاً لها. ومنا هنا أهمّية ممارسة الصّيام في الأمم السابقة على اختلاف مللها ونحلها وفلسفاتها، لأهميّة الصيام في تقويم السُّلوكات الفردية، وللشّوق الباعث على تحقيق الكمال الإنساني الذي لم تخل منه أمة من الأمم بدرجات متفاوتة. وللتّرغيب في ممارسة هذه الفضيلة عند المسلمين جعل للجنة باباً لا يدخله إلا الصّائمون، وذلك لقوّة هذه الفضيلة وسلطتها على النّفس الشّهوانية، وقدرتها على ضبطها، وتوجيهها التّوجيه النّافع للفرد.
ولا يخل فقه المسلمين من العناية بهذه الفضيلة حتى إن أبا حنيفة عرّف الفقه بأنه «معرفة النّفس ما لها وما عليها»، فنّبه إلى أهمية الاعتناء بالنفس طلبا لصحتها. والفقه في حقيقته اقتضاء للفضيلة العملية، التي هي فضيلة التقوى، وما المدوّنة الفقهية الكبرى عند المسلمين في عمقها إلا طلبا لهذه الفضيلة، وإن كان البعض قد أفرد لها أعمالاً مفردة، كما صنع أبو حامد في «إحياء علوم الدين» وهذا ابن رشد ذكّر بأمّهات الفضائل الأرسطية، ومنها فضيلة العفة، وجعل العبادات، ومنها عبادة الصوم، شرطاً في تثبيت هذه الفضائل، في نهاية كتابه في الفقه المقارن «بداية المجتهد ونهاية المقتصد»، وهذا دليل على تخليق العبادات وعدم فصلها عن فضيلة التقوى.
*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية