كان الراحل طاهر حسين من سماته النادرة بين الناس، كراهية المدح، حين يمدحه أحد يغادر المكان فوراً. كتب عنه الأديب حامد عقيل رواية «الرواقي» وهي بديعة، لكن حين تحدثت عن مسيرته غض النظر وقلت له عن كتابة مذكراته فغيّر الموضوع وصار يسخر من تجربته.
عرفت الكثير وغشيت كبار المجالس بفنانيها ومثقفيها وجدت الزيف والنمائم، قلة من يضعون وشماً في ذاكرتك بأخلاقهم وتربيتهم وكثرة أدبهم وسمتهم، قلة من يمتلكون أخلاق النبلاء لا «أخلاق العبيد» كما هو وصف نيتشه. طاهر حسين رحل وفي ذاكرتي له الكثير من التقدير والامتنان، مع أنني قصّرت بالتواصل معه كثيراً في آخر حياته لظروف العمل والسفر.
كان يركب الباص المتنقل في جدة بين فينة وأخرى، مع العمالة، وحين تسأله يقول: «أركب معهم لأتذكر من أنا، لأكون على الأرض، كلما أشعر بالزهوّ أركب الباص». كان يخشى على نفسه كثيراً من خصلتين «الكذب» و«الغرور»، وأشهد أنه كان صادقاً ومتواضعاً.
وحدث أن أَولمَ لنا صديق في الرياض وكان يحمل همّ هذه المناسبات، ولكن حين شاهد الأطباق الصغيرة المرتبة كان سعيداً، وقال إنها من أجمل ما يأكل في حياته. أحب البساطة والحياة، وكان مرحاً، يدمر آلامه بالسخرية منها، ويفضل المقتصد من القول والزاد. عاش خفيفاً ورحل خفيفاً، وبرغم عزلته غير أنه لم يغادر الساحة، بل أحيا العديد من المناسبات، وكان يحرص على بعض مناسبات الإفطار في رمضان، وله قصصه مع الفنان الكبير محمد عبده، قصص بعضها مشاكس والآخر منها معاتب، والبعض منها مطرزة بعناوين الصداقة ورفقة الجيل. حين أقابله عائداً من الإمارات في جدة أو الرياض، يحرص على شرح الفنون الإماراتية والرقصات، والعادات، لأنه يحب الإمارات وقدم إليها في شبابه فناناً وعازفاً ومغنياً.
ولأننا في وسط فني ثقافي وإعلامي يغشاه ما يغشى كل مجالٍ من غش ونفاق، فإنه كان مرتب الأخلاق، رشيق العبارة، حسن الإنصات، يتواضع للمعلومة، ولا يروي معلومة إلا وسنّد لها من مصدرٍ أو كتاب. ولايجاري ولايماري حين يتعلق الموضوع بالكذب أو النميمة، بل يبادر بقمع الفتنة من مهدها، وربما لم يقابل إنساناً مرةً أخرى طوال حياته لأنه قال له كذبة، أو رمى عليه نميمة، حينها تكون القطيعة الكاملة، يكتفي من الناس المؤذين بهجرانهم، لا يخاصم، ولا يجادل الحمقى والجهلة والتافهين، كان يحب الآية الكريمة:«وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً».
قابلته مراتٍ عديدة لم نجد منه إلا الخير والصدق والوفاء. وبرغم خيانات العديد من الفنانين له بقي عفيف اللسان تجاههم، شخصياً لم أره إلا عاتباً على فنانٍ واحد، وحين ذكر عتابه لي ندم، وبدأ بذكر محاسنه ثم صمت.
هو عازف الديوان الصوتي للراحل الكبير محمد الثبيتي. رحل طاهر حسين تاركاً غير الإرث الفني، الإرث الأخلاقي والثقافي العريق، وكان حفيّاً بالتواضع ويقدره. يهرب من المتغطرسين كالهارب من الأجرب، ويفضّل الأحاديث الثقافية على الفنية، ويتأمل كثيراً بنصوص المتصوفة وبخاصة ابن عربي والنفّري. ملأ حياته بالروحانيات، وحين يحين الأذان يؤمّ بنا الصلاة، ويتلو القرآن بطريقته الخاصة وبترتيل قشيب.
رحم الله طاهر حسين، والعذر منه في قبره على التقصير في التواصل، ولأهاليه خالص التعازي.
*كاتب سعودي