أصدر البيت الأبيض استراتيجية الأمن القومي الأميركية أواخر عام 2022، وفي النسخة المنشورة رسمياً، والمكونة من 48 صفحة، كان الشرق الأوسط بكل ما فيه من أزمات وتفاصيل موجوداً في الاستراتيجية الجديدة بصفحة واحدة من مجمل الاستراتيجية وهي الصفحة 42.
وتحدد الاستراتيجية المنشورة خمسة مبادئ جوهرية:
أولاً، ستدعم الولاياتُ المتحدة تعزيزَ الشراكات مع الدول التي تعتمد أسس النظام الدولي كمعيار لها، وتعلن واشنطن أن تلك الدول يمكنها الدفاع عن نفسها ضد التهديدات الخارجية. وهذا يعني طبعاً قواعد جديدة في تعزيز نظم الدفاع والدعم العسكري ضمن أسس التسليح الحديثة المختلفة كلياً عن الأسس القديمة التقليدية. 

ثانياً، لن تسمح الولايات المتحدة للقوى الأجنبية (!) أو الإقليمية بتهديد حرية الملاحة عبر الممرات المائية في الشرق الأوسط، بما في ذلك مضيق هرمز وباب المندب، ولن تتسامح مع جهود أي دولة للسيطرة على دولة أخرى، أو على المنطقة، من خلال القوة العسكرية. وهذا يثير تساؤلات حول تعريف «الأجنبي» في قاموس واشنطن وما إن كانت تعتبر نفسَها عنصراً محلياً في تلك المضايق!
ثالثاً، حتى عندما تعمل الولايات المتحدة على ردع التهديدات التي يتعرض لها الاستقرار الإقليمي، فإنها ستعمل على تقليل التوترات، وخفض التصعيد، وإنهاء النزاعات حيثما أمكن ذلك من خلال الدبلوماسية.
رابعاً، توضح الاستراتيجية أن الولايات المتحدة ستعزز التكامل الإقليمي من خلال بناء روابط سياسية واقتصادية وأمنية مع شركائها وفيما بينهم، بما في ذلك من خلال هياكل دفاع جوي وبحري متكاملة، مع احترام سيادة كل دولة وخياراتها المستقلة. وهو ما يتماها تماماً مع تفاهمات التكامل التنموي الإقليمية والتي باشرت فيها دول المنطقة في اللحظة الأخيرة كحل لمواجهة أزمات ما بعد وباء كوفيد، وتداعيات حرب أوكرانيا. وهذه الشراكات الأمنية تشمل إسرائيل بالضرورة، وهي استراتيجية أقرها الإقليم نفسُه قبل أن تقرها واشنطن.
وفي المبدأ الخامس والأخير، تقول الولايات المتحدة إنها ستعمل دائماً على تعزيز حقوق الإنسان والقيم المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة.. وكما اعتاد العالَم فالهدف هو الخضوع لمصالح واشنطن السياسية.. وماذا سيقول الديمقراطيون غير ذلك أصلاً؟
الاستراتيجية بإطارها الجديد في سياسة واشنطن في الشرق الأوسط تشبه كثيراً تجرع الدواء المر في حلق واشنطن التي بالكاد تقبل بواقع وحقيقة أن سياسة الهيمنة الأميركية على المنطقة ودولها انحسرت بعد التحديات التي واجهتها الإدارة الحالية من قبل دول المنطقة التي غادرت مربَّع المجاملات الدبلوماسية إلى المواجهات المفتوحة ضد سياسات واشنطن بما يحقق مصالح المنطقة. وأيضاً التحرك الدبلوماسي الناعم لبعض هذه الدول بغية تحقيق أسس جديدة لتحالفات إقليمية قائمة على التعاون والتنمية خالية من الدسم السياسي التقليدي والمباشر، وتركيزها الاهتمام على تحقيق العوائد التنموية والاقتصادية كنواة لخلق سوق يوفر الطاقة والأمن الغذائي والدعم اللوجستي للعالم في أزمته الحالية.
لن نبالغ فنقول إن أميركا لم تعد القوة العالمية الأولى، فهي ما تزال كذلك، لكن الإقليم صارت فيه دول تعرف كيف تدير مصالحها باحتراف وذكاء.

*كاتب أردني مقيم في بلجيكا