في مَهاجرنا الأوروبية، أول ما تعلمناه كان دورات في «الاندماج الاجتماعي»، وهي مساق مفروض لمتطلبات الهجرة إلى الأوطان الجديدة التي وصلها كل مهاجر «غريب الوجه واليد واللسان». والهدف من مساق «الاندماج الاجتماعي» أن لا نصبح غرباء في الأوطان الجديدة، ومع تعلم اللغة لمن لا يعرفها، كان من الضروري أن نخوض غمارَ دورات تعليمية وتثقيفية هدفُها أن يصبح المهاجرُ جزءاً من نسيج المجتمع المتعدد ضمن مفهوم المواطنة التي تحتضن الجميع، وتحت مظلة القوانين التي تنظم العلاقات بين الجميع أيضاً.
في «الاندماج الاجتماعي»، يتعلم المهاجر الجديد معنى احترام الآخر أولا، ومعنى احترام قوانين البلد وأعرافه، حتى العادات والمجاملات يتم التعرف عليها حتى يتجنب المرءُ الحرجَ في مواقف يجهلها.. كل شيء عن تفاصيل العيش والحياة وأسلوب التعامل يتم طرحه في تلك الدورات التي يعتبر اجتيازُها متطلباً مهماً في قوانين الهجرة.
وهناك قصص نجاح عربية كثيرة استطاعت أن تحقق الاندماج في تلك الأوطان الجديدة، والمسطرة دوماً كانت القوانين، والمعيار دوماً كان الكفاءة.
الاندماج لا يعني بالمطلق تذويب ثقافتك ولا معتقداتك ولا التخلي عن شخصيتك لصالح ثقافات ومعتقدات جديدة، بل المساهمة في زيادة تنويعها ورفدها بما لديك وإضافة جديدة إلى مخزونك الشخصي.. وهكذا يكون التطور البشري دوماً.
هذا «الاندماج الاجتماعي» في مجتمعات المهجر الغربية جعلني دوماً أفكر بأهمية وجود ما يشبهه في عالمنا العربي المثقل بالأزمات والحروب الأهلية العبثية والخلافات التي قد تصل حد الشقاق بين الناس.
اللغة تجمع هذا العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه، بالتأكيد مع تنوع في اللهجات، لكن ما يفرِّق المشرقَ والمغربَ وما بينهما أكثر بكثير، مع أن الفوارق ليست أكثر من خطوط مرسومة بالطبشور متواترة بالتقاليد والعادات لتصبح مسلمات لا منطق يحكمها.
نحن في العالم العربي بحاجة إلى صيغة ما لنندمج أجتماعياً مع ذاتنا العربية، وهي ذات ثقافية ورثناها ولم نصنعها. العالَم من حولنا يتغير، وهناك حركة «اندماج اجتماعي» بشرية في سياق تغييرات عالمية كبرى مبنية على التكافل التنموي المشترك، وقد صنعته أكبر أزمة وباء في التاريخ الحديث جعلت البشريةَ تفكر من جديد في توزيع قدراتها وتوظيف معرفتها المتراكمة لتجنب كوارث مماثلة، وما زلنا في بعض دول عالمنا العربي رهائن للماضي بكل إرثه الثقيل، وأسرى لأزماتنا وخلافاتنا السابقة.
الاندماج الاجتماعي في عالمنا العربي يجب أن يتجاوز الإنشاء إلى الحركة الواقعية المبنية على التعليم الجيد والمعرفة الناضجة للإنسان الكامن فينا، هذا الإنسان القادر بالمعرفة الصحيحة الخلية من الدجل والشعوذة على تخطي التحديات حوله.
ربما كان على الجامعة العربية أن تتحول إلى مؤسسة فاعلة تخلع عن نفسها ثوب «الخطابات الطويلة»، وتوظف أجهزتها لمشروع تنموي شامل يستهدف الوعي في عالمنا العربي، الوعي الذي تم تشويهه تراكمياً حتى تحول إلى مساحات متقاتلة في عالم يبحث عن صيغه الجديدة اليوم.
نحن الذين نحتاج على دورة اندماج اجتماعي مع أنفسنا في هذا العالم العربي، لنعيد تعريف المواطنة والقوانين كناظم للحياة، ونتخلص، لمرة واحدة وإلى الأبد، من كل عناصر إشعال الأزمات في موروثنا التاريخي، ونحافظ على المضمون الإنساني الرفيع في هذا الموروث، وهو كثير أيضاً.

*كاتب أردني مقيم في بلجيكا