كتبتُ مقالتين في هذه الصفحة، في فبراير الماضي، عن المبادرة الصينية لتسوية الصراع في أوكرانيا، ركزت في أولاهما على إعلان وزير الخارجية الصيني نيةَ بلاده التقدمَ بوساطة لإيجاد تسوية سياسية للصراع، واستعرضت في الثانية عناصرَ المبادرة وحظوظَها من النجاح، وكان اللافت تضمينها مبادئ مهمة، كاحترام سيادة الدول واستقلالها ووحدة أراضيها، وهو ما يمكن تفسيره لصالح أوكرانيا، ومعارضة تعزيز التكتلات العسكرية وتوسيعها وأخذ المخاوف الأمنية بعين الاعتبار ومعالجتها معالجةً صحيحةً، وهو ما يمكن أن يُرْضي روسيا. 

غير أن المبادرة عانت من كونها مجرد مبادئ عامة قد تفقد جاذبيتَها إذا انتقلنا إلى التفاصيل، خاصة أن التعارض تامٌ في المسائل المتعلقة بالسلامة الإقليمية لأوكرانيا، حيث تعتبر روسيا ضمَّها لأربعة أقاليم أوكرانية، ناهيك عن القرم، مسألةً منتهيةً، فيما لا يمكن لأوكرانيا التفريط في هذه الأقاليم. وأُضيفت لهذا صعوبةُ اعتبار الصين طرفاً محايداً، رغم عدم تأييدها للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، بسبب عمق علاقتها التعاونية مع روسيا. وبدا كما لو أن صفحةَ المبادرة قد طُويت، وأنها كانت مجرد عمل من أعمال العلاقات العامة الصينية.
غير أن التطورات فاجأتنا يوم الأربعاء الماضي بمكالمة هاتفية بادر بها الرئيس الأوكراني لنظيره الصيني، ووصفها الأول بأنها كانت طويلة وذات مغزى، فيما صرّحت مصادرُ وزارة الخارجية بأن الرئيس الصيني أبلغ نظيره الأوكراني بأنه سيرسل مبعوثاً لأوكرانيا ودول أخرى لإجراء محادثات معمقة سعياً لتسوية سياسية. فهل تنطوي هذه المكالمة وما ثار حولها على جديد؟ خاصة وقد فُهِم أن الرئيس الأوكراني لم يُطلع نظيرَه الأميركي على نية إجراء المكالمة، وهو ما يمكن أن يُفسر بضجره من السياسة الأميركية التي ربما يكون قد اكتشف أن ما يعنيها هو استنزاف روسيا بغض النظر عما يصيب أوكرانيا، وإن كان التحليل السياسي لا يمكنه الاستبعاد التام لاحتمال أن تكون المكالمة جزءاً من محاولة لخداع روسيا بأن أوكرانيا في سبيل تقديم تنازلات جوهرية، بينما هي تستعد لهجوم مضاد شامل بعد أن عززت المساعداتُ الغربيةُ قوتَها العسكرية. وتعكس هذه الحيرةُ صعوبةَ التحليل السياسي وتعقده بسبب غياب المعلومات كاملة الدقة عن الأوضاع الميدانية واستحالة اليقين بالنوايا التي تنطوي عليها تحركات صانعي القرار في أطراف صراعٍ ما.
ولنفترض الآن أن القيادة الأوكرانية قد أدركت عبث استمرار القتال، ومن ثم بدأت تظهِر مرونةً أكبر في قبول التسوية، ويمكن تعزيز هذا التوجه بإدراك مماثل من القيادة الروسية بأن الانتصار لم يعد سهلاً بعد إصرار الولايات المتحدة على الاستمرار في دعم أوكرانيا. وفي هذه الحالة يمكن تقبل فكرة العودة لمسار التسوية، لكن هذا لا يعني بالضرورة أنها أصبحت ممكنة أو سهلة لأكثر من سبب، فهناك أولاً استمرار التعارض التام حول ضم روسيا لأقاليم أوكرانية، وإن كان هذا قد يجعل قبول الأفكار التي نادت بإجراء استفتاء بإشراف دولي على تقرير مصير هذه الأقاليم أكثر احتمالاً، بالإضافة إلى معضلة البحث الشاق في مسألة التعويضات وإعادة الإعمار، كذلك لا يجب إغفال المعارضة الأميركية البديهية لإحياء المبادرة الصينية، إذ سيكون نجاحها في حلحلة الصراع في أوكرانيا نذيرَ شؤم لمكانة أميركيا بعد أن تلقت ضربةً قويةً في الشرق الأوسط بنجاح الوساطة الصينية بين السعودية وإيران.

*أستاذ العلوم السياسية - جامعة القاهرة