الأميركان يحمدون الله على نعمة الجغرافيا في بلادهم، ويعتبرونها أعظم نعمة جيوسياسية من بعد نعم أُخر. هذا العامل يجب ألا يغفل عنه المهتم بالشأن الأميركي، وسر تفوق هذه الدولة التي أصبحت في فترة زمنية قياسية القوة الأولى في العالم المعاصر، وهي أيضا العظْمة التي تقف في حلق العالم الحديث. 
هناك دول كبرى تحاول أن تزيح أميركا من هذا العرش السياسي والاقتصادي، وعلى رأسها الصين وروسيا، وكذلك الاتحاد الأوروبي الذي أراد الوحدة ولم تفلح محاولاته. 
أما بقية دول العالم، فلا يخطر على بالها أن تكون البديل لأميركا، لأنها لا تملك مقدراتها الأخرى من غير الجغرافيا. 
أميركا قارة وليست دولة فحسب، وهي جبل ينكسر عنده من يحاول مناطحته. قال عنها مهندس السياسة الخارجية الأميركية حتى اللحظة الراهنة: من يتعامل معها فهو مجنون ومن لا يتعامل معها فهو منتحر. وهو ليس كلاما «طوباويا»، بل واقع الحال منذ الحرب الكونية الأولى وشاهد عيان عليه.
لقد استفادت أميركا من جميع الحروب التي خاضتها سواء بشكل مباشر، أو عبر الحدائق الخلفية في بعض الدول وحرب أوكرانيا لا تخفى على أولي الأبصار الذين لا يعانون من قِصر النظر.
بعد الجغرافيا، تأتي قوة قانونها الخاص، فهي لا تعترف بغير قانونها، التي تمليه على العالم وتتركه في حيرة من أمره، ولا يستطيع أي قانون آخر أن يأخذ مجراه الطبيعي هناك، أو حتى في خارج أرضها. سجون «أبوغريب»، و«غوانتنامو» واعتقال «نورييجا» شواهد العصر على ذلك، ومحكمة العدل الدولية لا وجود لها في مفردات القانون الدولي لديها. 
إذا كان في المجتمع الأميركي شيء مقدس، فهو الدستور، وأي تغيير في مواد الدستور يأخذ شكلاً أفقياً عبر المؤسسات وليس الرئاسات، فالشعب عبر مجلس النواب ومجلس الشيوخ أو الاستفتاء المباشر كما حدث لدستور الاتحاد الأوروبي، ولم ينجح. 
هذه الآلية تمنع من تحول رؤساء أميركا إلى «فراعنة» أو رئيس مؤبد ولا مستبد والقضاء هو الكابح الرئيس من هذا الانزلاق، كل ما يمكن فعله لمن يريد أن يحكم لفترة ثالثة أو ثانية انتظار الانتخابات من بعد الرئيس الفاصل بين الفترتين، ولم يحدث في تاريخ أميركا أن حكم رئيس لأربع فترات متتابعة غير فرانكلين. 
أما الأهم من كل ما سبق، هو الشعب الأميركي الواعي لمتطلبات التعايش السلمي بين مختلف الشعوب التي استوطنت أميركا منذ أكثر من قرنين، وقد لمحت ذلك من أسفاري المتعددة لأميركا، وكذلك تعاملي المباشر مع مشرفي الأميركي في سنوات الدراسات العليا، لمدة ست سنوات متتالية، والتعرف كذلك على عدد كبير من المسؤولين الأميركان في بلدي خلال فترة عملي التي امتدت لأربعة عقود، وكنت أصارحهم بهذا الشعور وأقول لهم بأن تميزكم عن أوروبا بأنكم شعوب ذابت في محيط المواطنة الأميركية. 
هذا هو الفارق الحضاري بين مختلف الأمم، فمن أراد أن يزيح أميركا عن المشهد السياسي في شموخه، يحتاج إلى أكثر مما ذكرنا، ليس تعجيزا، بل تأهيلا.
*كاتب إماراتي