في عام 1990 أطلقت فرقة الروك الألمانية الشهيرة «SCORPIONS» أغنيتَها المعروفة «WIND OF CHANGE» (رياح التغيير). كانت الأغنية متسقة جداً مع سياق الحلم الطوباوي بتغيير النظام العالمي ونهاية مخاطر الحرب الباردة، وقد أتت في سياق متصل مع الأحلام الوردية التي رافقت انهيار جدار برلين وتلاشي الستار الحديدي كله، واعتبار كل ذلك انتصاراً للحرية الإنسانية!
كلمات الأغنية جميلة ومثالية جداً، مع لحن موسيقي جميل أيضاً، وفي مقطع اللازمة منها تقول الأغنية:
«خذني إلى سحر اللحظة
في ليلة متألقة
حيث يحلم أطفال الغد
برياح التغيير»
لقد حفظت الأغنية منذ إصدارها، لكن لأول مرة أتأمل في لازمتها وكلماتها وأنا أشاهد محطات الأخبار حول العالَم، خصوصاً في إضرابات أوروبا المتواصلة في بعض العواصم والمدن، وما رأيته أن «أطفال الغد» الذين غنت لهم الأغنية في التسعينيات هم اليوم شباب في الثلاثين من أعمارهم، غاضبون ومتحفزون، واللحظة التي يعيشونها ليست ساحرةً، ورياح التغيير يبدو أنها لم تعصف في التسعينيات، لكنها تعصف اليوم.
وقفت الأغنية، في سياقها الزماني، على أعتاب انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية كلها. وكان آخر رئيس سوفييتي هو ميخائيل غورباتشوف الذي أعلن البيريسترويكا، وتعني إعادة البناء، بعد أن سمح بحرية التعبير عبر إطلاقه سياسة «الغلاسنوست = التحدث بصوت مرتفع».
وكانت آخر قمة قبل الانهيار السوفييتي العظيم، بين الرئيس الراحل رونالد ريغان وغورباتشوف في ريكيافيك عام 1986، قد تجلت فيها إرهاصات نهاية الحرب الباردة الطويلة، وتكوَّن الأمل لدى العالم حينها في التغيير «الدولي»، وربما في مجيء حقبة جديدة من السلام والأمن العالمي.
وفي اعتقادي أن التغيير العالمي، الجذري والحقيقي، بدأ منذ فترة قصيرة كحالة ملموسة، فالتغييرات على ما يبدو هي مثل الزحزحة القارية، لا يمكن تلمس حركتها لكنها ضخمة، ضخمة جداً بحيث إنها استغرقت ثلاثين عاماً من العنف والفوضى والتحولات والتكتلات والتحالفات لتنتهي إلى ما نحن عليه اليوم.
خرجت شرق أوروبا من خلف الستار الحديدي هشةً، تحاول الانكفاء قدر الإمكان على قومياتها المحلية وهوياتها الوطنية لتخلق درعَ دفاع يحميها وتنطلق منه، ووجدت نفسَها أمام خيار وحيد يتمثل في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي ضمن متطلبات وشروط اقتصادية تعجيزية. فكان ما كان من انضمامٍ وضمٍ لاتحادٍ تسيطر عليه ألمانيا وفرنسا بالدرجة الأولى، وهذا تطلب أيضاً الخضوعَ لشروط رأس المال الذي تمثله الشركات الكبرى، فمثلاً وليس حصراً أغلقت كل من المجر والتشيك معاملهما الضخمة لصناعة القاطرات والحافلات لصالح شركات مثل فولفو ومرسيدس، وخضعت الحقول الخصبة الزراعية في وسط وشرق أوروبا لقوانين سوق الاتحاد التي فضلت إنتاج الدول الأقوى فيها، وسوق «ليدل» الاستهلاكي ذو الملكية الألمانية توجد له فروعه في كل حارة بكل مدينة من مدن دول الاتحاد.
العامل والفلاح اللذان كانا لا يجدان قُوت يومهما خلف الستار الحديدي، وجدا نفسيهما عاريين أمام الستار الممزق، والفقر هو ذاته لكن بلغة مختلفة ومنمقة.
دولة الرفاه الاجتماعي (social welfare State) التي كانت النموذج المثالي في بلدان مثل فرنسا والدول الاسكندنافية والبينولوكس، وصلتْها الهزاتُ الارتدادية للزلزال العالمي العظيم، فانتهت بعد انهيار عام 2008 الاقتصادي إلى مأزق صار فيه الاستمرار بنفس الآليات صعباً ومستحيلاً اليوم بعد كورونا والأزمة الأوكرانية.
رياح التغيير ما زالت تهب بهدوء يسبق عواصفها التي لم تنته بعد في هذا العالم.

كاتب أردني مقيم في بلجيكا