سوريا قضية شغلت الرأي العام بعد أكثر من عقدٍ من الزمان، حيث اجتمعت في سوريا مآسٍ ورزايا بلا عد ولا حساب، وتداخلت فيها القوى الإقليمية والدولية وتداعت إليها وتفشت فيها جماعات الإرهاب وميليشياته من كل حدبٍ وصوبٍ، وضمن التسويات الكبرى التي تجري في المنطقة جاءت عودة سوريا إلى الجامعة العربية.

عودة سوريا لم تحدث بين عشية وضحاها، بل مرّت بسنواتٍ من الحرب الأهلية القاسية، وصارت محط شدّ وجذب كبيرين بين الدول الغربية وروسيا التي وضعت فيها قواعد عسكرية، ودخلت بعض الدول الإقليمية بميليشيات مسلحة وتدريب ومعسكراتٍ وأسلحةٍ وواجهت ذلك كله إسرائيل التي لم تسمح أبداً باقتراب خطرٍ بهذا الحجم من حدودها، وبقيت سوريا محل تجاذباتٍ واستقطابات دون سندٍ عربيٍ قادر على منحها التوازن والاستقلالية في اتخاذ القرار بعيداً عن أي ضغوطاتٍ خارجيةٍ.

السياسة توازنات ومصالح متغيرة ومتقلبة، وليست عناداً أو إصراراً، بل تفتيش دائم عن حلول أكثر فاعلية وعملية، وفي لحظات التحولات السياسية وتغير التوازنات وبناء التسويات الكبرى تختلف المعايير وتنتقل الاستراتيجيات من مرحلة إلى مرحلةٍ، وفي هذه اللحظات تخرج تيارات عابثة تستحضر الماضي لتعيق الحاضر وتمنع الاتجاه للمستقبل لأسباب تخص مصالح تلك التيارات وتأثيراتها وأيديولوجياتها، وهو ما يجري وسيجري تجاه الموقف من سوريا.

عملت الإمارات مبكراً على استعادة سوريا للصف العربي، وقامت السعودية بجهدٍ كبيرٍ واستراتيجية كبرى تضمن الموافقة العربية على هذه العودة، وكان الزلزال الذي ضرب سوريا قبل بضعة أشهرٍ لحظة إنسانية ساعدت في تكثيف الجهود وتقريب وجهات النظر، ومن الطبيعي أن عودة سوريا للجامعة العربية بعد انقطاع دام أكثر من عقد من الزمن تستدعي الكثير من التوافقات والاشتراطات التي تضمن مستقبلاً أفضل لسوريا وللمنطقة.

من الطبيعي أيضاً أن تستثير هذه العودة مخاوف بعض الدول الإقليمية غير العربية التي انخرطت في الأزمة السورية بناء على سياسات واستراتيجيات ومصالح تخص تلك الدول، وبالتالي فالزيارات والتصريحات من هذه الدول تسعى للبحث عن الطمأنينة تجاه استثماراتها السياسية والاقتصادية والعسكرية ومصالحها الاستراتيجية والتي تخشى عليها جرّاء الأوضاع الجديدة التي تبنى في المنطقة والتي تشمل سوريا.

كأي بلدٍ يخرج من أتون حربٍ أهليةٍ وانقسامات ونزاعات مسلحة واستقطابات إقليمية ودولية ساخنة، فإن سوريا بحاجة إلى الكثير من التسامح والإصلاح والبناء، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، فالملفات العالقة شديدة السخونة وذات أبعادٍ إنسانية عميقةٍ والشعب السوري على الرغم من ضخامة المآسي والجراح قادرٌ على أعادة لمّ الشمل والتفتيش عن مستقبل أفضل وإغلاق الملفات الساخنة واحداً بعد الآخر بعقلانية وهدوء وتسامحٍ وسيجد في الدول العربية خير معينٍ وداعمٍ ومؤيدٍ.

في السياسة رهاناتٌ تصح وتخطئ، وصراعات تطول وتقصر، واستراتيجيات تتصادم ومصالح ومطامح ومطامع تتحرك عند أي تتغير كبر أم صغر، وسوريا ليست بعيدةً عن هذا كله، بل هي في قلبه.

والتغييرات الجارية في المنطقة اليوم والطامحة نحو صناعة مستقبل جديدٍ للمنطقة بأسرها لا يمكن أن تغض الطرف عن سوريا واقعاً ومستقبلاً، وعودة سوريا هي أفضل الخيارات في هذه اللحظة التاريخية على الرغم من كل شيء. لا تُبنى السياسة بالآمال ولا بالمشاعر والعواطف مهما كانت طيبةً ونبيلةً، وفي لحظات التسويات والتغييرات والتطويرات الكبرى يجب أن يُعاد بناء كل شيء من جديدٍ بالقدرة على التجاوز، ولولا هذا التجاوز لما استطاعت أوروبا تجاوز حروبها الطاحنة وبناء مستقبلها الزاهر اليوم. أخيراً، فاستقرار الدولة السورية واجتراح حلولٍ وطنيةٍ جامعةٍ واستعادة المهجّرين جراء الأوضاع المأساوية السابقة ومعالجة الجراح الغائرة هي السبيل نحو المستقبل.

*كاتب سعودي