في كتابها الصادر مؤخراً بعنوان «الحشد: كيف غير المغول العالم؟»، تبين المؤرخة الفرنسية ماري فافرو برين أن العولمة الليبرالية الأولى حدثت ما بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر، عندما وحد المغول آسيا الشرقية والعالم الإسلامي والعالم السلافي وأوروبا في إمبراطورية مرنة ممتدة الأطراف والحلقات. وترى الباحثة أن المؤرخين أهملوا دور التتار لصالح فروع المغول الآخرين وبصفة خاصة سلالة اليوان الذين حكموا الصين وسلالة الأخيميين الذين حكموا بلاد فارس.

لقد سيطر التتار على ما يعرف حالياً بروسيا وبلغاريا وأوكرانيا وكل آسيا الوسطى، فهيمنوا على فضاء إقليمي واقتصادي واسع لا يمكن فصله عن المنظومة المغولية الشرقية. ما يتعين التنبيه إليه هنا هو أن هذه العولمة الأولى قامت على التجارة طويلة المسالك وتنقل البضائع والنقد بحرية، كما أنها منحت الأولوية لاعتبارات المصالح الاقتصادية بدل الهويات القومية والدينية.

لقد أثبتت الدراسات التاريخية الجديدة أن المغول أبدعوا في فن الحرب وفي العلوم الفلكية والزراعية والعسكرية، ووضعوا لأول مرة في تاريخ البشرية العملة الورقية التي وحدت المنظومة الاقتصادية المعولمة، وانشأوا أول نظام بريدي مؤمن وسريع سهل التواصل بين عموم رعايا الإمبراطورية. وعندما أسلم المغول في الشرق الأوسط استطاعوا توثيق الصلة بمماليك مصر وفتحوا الباب لأسلمة كل آسيا الوسطى، وقد كرسوا نظاماً فريداً من التسامح وبلوروا نظاماً قانونياً صارماً لحماية حقوق الأفراد والجماعات بدلاً من النهج الشرس والمتوحش الأصلي للغزاة الأوائل.

لا يزال انهيار العالم المغولي موضوع جدل واسع بين المؤرخين الذين يذهب كثير منهم إلى تفسيره بوباء الطاعون الأسود الذي قضى على مراكز الازدهار والتطور في هذه الإمبراطورية التي حكمت أهم مناطق العالم الوسيط. لا تهمنا هذه الخلفيات التاريخية، وإنما أردنا الانطلاق منها في ضوء الأحداث الحالية، مطالبين بمراجعة التصور السائد حول التجربة المغولية في مجالنا العربي الإسلامي. لا نعني هنا بطبيعة الحال الغزو المغولي الأصلي الدموي الذي قضى على الخلافة العباسية ودمر عاصمتها بغداد سنة 1258 وقد تلاه هجوم فظيع متكرر على بلاد الشام وفلسطين.

المعروف أن «بركة خان» الابن الرابع لجنكيز خان اعتنق الإسلام، وفي عهده وعهد خلفائه تحولت الدولة المغولية الآسيوية إلى ركيزة أساسية للعالم الإسلامي فكرياً واقتصادياً. ومن دون الخوض في مآلات هذه الدولة التي امتدت من غرب الصين إلى الهند وبلاد فارس وسيطرت على آسيا الوسطى، منشئة طرق الحرير الأولى الرابطة بين العالم الشرقي وأوروبا، نرى اليوم أن الحوار عاد مجدداً حول المشروع المغولي الذي تتبناه بقوة الصين وتحيل إليه روسيا في مقارباتها الأورو آسيوية. في هذا الحوار يغيب العالم الإسلامي، رغم أنه الحلقة المركزية في الدائرة المغولية والطريق الذي لا غنى عنه للعالم المتوسطي الأوروبي.

ما نعنيه هنا هو المكونات الثلاثة الأساسية للعالم الإسلامي في آسيا الوسطى (من غرب الصين وبحر القزوين إلى أفغانستان وإيران) والمنطقة التركمانية والشرق الأوسط العربي. لقد حكمت عوامل تاريخية معاصرة معروفة بعزل هذه المكونات الثلاثة عن بعضها بعضاً، وشكل الصراع الأيديولوجي السابق خلال الحرب الباردة الحاجز الجوهري بين العالم العربي وعمقه الإسلامي في البلقان وآسيا الوسطى.

وما هو مطلوب اليوم يتمثل أساساً في تجاوز هذا الإرث السلبي، في اتجاه المصالح الاقتصادية والاستراتيجية المشتركة بين البلدان والأمم التي تنتمي إلى هذا العالم المغولي بمفهومه الواسع.

لقد عبرت الدول العربية المحورية عن هذا التوجه خصوصاً بعد احتواء الخلافات والصراعات القائمة مع دول الجوار الإقليمي الأخرى، كما طرحت في إطار استراتيجية تنويع الشراكات الدولية فكرة التعاون والانسجام مع القوى الأورو آسيوية العالمية، التي تربطها معها مصالح حيوية حقيقية.

إلا أن هذه التوجه لا يعني بطبيعة الحال إدارة الظهر للشركاء الأوروبيين والغربيين إجمالاً، فغني عن البيان أن الدور المحوري الذي يمكن أن تؤديه الكتلة العربية هو دور الجسر الاستراتيجي ما بين محوري القوة في العالم. إنه الدور الذي لعبته سابقاً الجبهة المغولية الغربية في عصر العولمة الأولى في القرنين الرابع عشر والخامس عشر حسب مقاربة الباحثة الفرنسية ماري برين. الدعوة إلى إحياء الفكرة المغولية تعني إعادة ترتيب ما يسمى بالمسألة الشرقية الجديدة في أفق قيم التكامل والشراكة والانفتاح التي هي اليوم ضرورة قصوى وعاجلة لتأمين السلم والاستقرار في العالم.

*أكاديمي موريتاني