إنه يوم صيفي صحو في سهول أوراسيا، في زمن ما في حدود 4000 سنة قبل الميلاد. بينما يصرخ الأطفال على بعضهم البعض بلغة هندو أوروبية بدائية ويلهون بين الأعشاب الطويلة، تقوم أنتَ بحلب الحيوان ذي الحوافر الذي يقف أمامك، وهو أنثى حصان. مهرها الصغير مربوط بساقها الخلفية لإيهامها بأن فمه هو الذي يضغط على حلمات ضرعها وليس يديك. ينسكب الحليب في وعاء فخاري، فتعلو محياك ابتسامة وأنت ترى السائل قد بدأ يتخثر، وهي أمارة على طعام صحي تخمره الطبيعة وتنعم به أنت وأقاربك.
بالنسبة لمؤرخة الطهي الأميركية آن مندلسون، هذا هو الفردوس الذي فقدناه. وفي كتابها الأخير الذي يحمل عنوان «فاسد.. أسطورة الحليب كطعام خارق»، تتبع عبر الزمن كيف فقد المجتمعُ الحديثُ هذه العلاقة التكافلية مع منتجات الألبان وكيف أضحى حليب البقر السائل محبوباً في المجتمع الطبي عن طريق الخداع والاحتيال، في ما تسميه «أحد أعظم صدف تاريخ الطعام». وتُظهر أن الأطباء ومسؤولي الصحة العامة شنّوا حملة علاقات عامة تغنّوا فيها بالفوائد الغذائية المفترضة للحليب السائل، لدرجة أنه بحلول القرن العشرين أصبح الجمهور يعتبره عنصرا أساسياً لا غنى عنه ضمن قائمة البقالة. 

  •  هل الحليب مفيدٌ حقاً للجسم؟

وإذ تنكب مندلسون على شرح كيف اكتسب الحليب سمعةً مبالغاً فيها، فإن أقوى سلاح تلجأ إليه في الحجاج والإقناع هو البيولوجيا. فحوالي الثلثين من البشر لا يستطيعون هضمَ حليب البقر دون الشعور بانزعاج، وهي حالة طبية يشار إليها عادة باسم عدم تحمل اللاكتوز. وهذا تكيفٌ معقول تماماً: ذلك أنه خلال معظم التاريخ البشري، كان من المستحيل الاحتفاظ بالحليب في شكله السائل، إذ كانت الأبقارُ والماعزُ والخيول تلد في فصل الربيع، ونتيجة لذلك، كان البشر يحصل على حليبَها خلال أكثر شهور السنة حرارةً، في وقت كانت تُرضع فيه الحيوانات صغارها. وكانت الحرارة المحيطة تشجّع البكتيريا الجيدة التي تتشكل بشكل طبيعي على هضم اللاكتوز في الحليب. 
وهذا كان يُنتج حمض اللاكتيك، الذي كان يؤدي بدوره إلى تخثر أجزاء من الحليب وتحوّلها إلى خثارة. وبسبب حموضتها الطبيعية، كانت منتجاتُ الجبن والزبدة ومشتقات الحليب الأخرى المستخرجة منه مقاوِمةً للعديد من أنواع الميكروبات السامة، وهي ميزة تقول مندلسون إنها باتت غائبةً عن حليب البقر العادي كما نعرفه الآن. 
الجزء الصغير من البشر الذين يستطيعون شرب الحليب السائل هم سكان أوروبا الشمالية بشكل أساسي. وفي هذا الصدد، تركِّز مندلسون على الكيفية التي روَّج بها العلماء البريطانيون، ثم الأميركيون لاحقاً، بداية من القرنين السابع عشر والثامن عشر، لشرب الحليب باعتباره غذاءً وعلاجاً لكل شيء. وتتعقب تاريخَ الحليب منذ أيامه الأولى في إنجلترا خلال الحقبة الجورجية حين كان مكوِّناً من مكوّنات أنظمة غذائية يُقبل عليه الأعيانُ والوجهاء بشكل مبالغ فيه، وبعد بضعة قرون على ذلك الوقت، حين صار طعاماً شهياً ومنعِشاً يستهلكه ويستطيبه الزبائن الأثرياء في المدن الأميركية والأوروبية.
وبحلول العقود الأولى من القرن العشرين، وبينما أصبح الحليبُ في متناول شريحة واسعة من الأميركيين، اندلع الجدل حول كيفية جعل شربه أكثر أماناً. وهنا تروي مندلسون كيف أن منتجي الحليب وحلفاءهم، من جهة، كانوا يرون أن بسترة الحليب يمكن أن تكون خطيرةً على المستهلكين وأن اتّباع المعايير الصحية الأخلاقية (لكن الأقل تطرفاً) سيفي بالغرض. ومن جهة أخرى، حشد مؤيدو بسترة الحليب الدعمَ لقضيتهم من خلال تضخيم الادّعاءات بأن الحليب يشكّل جزءاً أساسياً من النظام الغذائي للأشخاص، وخاصة الأطفال الرضع، الذين كانوا أكثر عرضةً للموت جرّاء مسبِّبات الأمراض التي تنتقل عبر الحليب. وفي هذا السياق، كتبت مندلسون تقول: «إذا كان الإدمان على علوم متعجلة وغير منظمة هو نقطة الضعف الكبيرة لدى المؤيّدين للحليب غير المبستر، فإنهم مع ذلك يستحقون الإشادة على مساهمة نحن في أمس الحاجة إليها: لقد قاموا لوحدهم بلفت انتباه الجمهور إلى عبث تجارة حليب الشرب». وكما اتضح مع الحركة المناهضة للقاح، فإن الصراخ والتشويش على أصوات المعارضة حتى لا تُسمع، بدون محاولة إيجاد نوع من الأرضية المشتركة المعرفية، هو أمر عديم الجدوى. وإذا كان الكثير من الناس يشعرون بالاستياء وخيبة الأمل من المؤسسة الطبية، فإن مندلسون تتخذ هذا الموقفَ بشكل جدي، لاسيما أن القيمة الغذائية للحليب تعتبر محلّ نقاش في أحسن الأحوال، كما تقول. 
ومن الناحية الاقتصادية، تحاجج مندلسون أيضاً بأن صناعة الألبان لم تكن سوى وبال على المزارعين. فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تقول المؤلفة، صار الأميركيون يشربون كميات أقل من الحليب، على الرغم من زيادة إنتاجه. وفي الأثناء، فرضت الحكومات المحلية والولائية والفيدرالية الالتزامَ ببروتوكولات صحية صارمة وباهظة بشكل متزايد، على الرغم من وجود سلالات ضارة من البكتيريا قادرة على التحايل حتى على أكثر التدابير الاحتياطية صرامة. وهذه العوامل أدت إلى إغلاق المزارع الصغيرة، التي أخذت مكانَها الشركاتُ الزراعية الكبرى ذات الحجم الصناعي والقادرة على دفع المال.
والحق أن قراءة الفصول التي أُفردت للمشهد الاقتصادي لصناعة الألبان منذ أربعينيات القرن الماضي شائقة ومليئة بالحقائق الصادمة حول تأثيرات وتداعيات الصناعة الحديثة على المزارع والحيوانات والمستهلكين.

محمد وقيف

الكتاب: فاسد.. أسطورة الحليب كطعام خارق
المؤلفة: آن مندلسون
الناشر: كولومبيا يونيفرستي برِس
تاريخ النشر: أبريل 2023

عن خدمة «واشنطن بوست لايسنسينج آند سيندكيشن»