دائمًا ما كانت الديون الأميركية محط أنظار العالم، سواء من جانب الباحثين عن استثمارات مالية خالية المخاطر في السندات الدولية، أو من أولئك المهتمين بمحددات الاستقرار النقدي الدولي. وهذا الاهتمام نابع من حقيقة اقتصادية مفادها أن كل دولار جديد من الديون الأميركية يقابله توسع مماثل -وربما أعلى- للسيولة الدولية وحركة رأس المال على الصعيد العالمي. وكيف لا، والدولار الأميركي هو أهم مكونات هذه السيولة، ويمثل حاليًّا نحو 58% من الأرصدة الاحتياطية لبنوك العالم المركزية.

وعندما لامست قيمة الديون الأميركية مؤخرًا سقف 31.4 تريليون دولار، كان على صانعي سياستها الاقتصادية البحث عن مخرج عاجل، فالتشريعات الفيدرالية تمنع تجاوز هذا الحد، وبالتالي، كيف سيتسنى للحكومة الأميركية أن تُصدر ديونًا جديدة لسداد جزء من الديون القديمة أو حتى تمويل الإنفاق العام الجاري والاستثماري؟

في هذه الأثناء، خرجت العديد من التحذيرات الأميركية والدولية تُبرز خطورة تخلُّف الولايات المتحدة عن خدمة ديونها، لما قد يخلقه ذلك من عاصفة من الأزمات المالية غير المسبوقة في أسواق العالم كافة. بيد أنه، وكما كان متوقعًا، أُقرّت صفقة تعليق سقف الدين التي أعدّها الرئيس الأميركي بمشاركة رئيس مجلس النواب، وبات العالم الآن إزاء مرحلة جديدة من توسيع المديونية الأميركية حتى مطلع العام بعد القادم 2025. وبصرف النظر عن التفاصيل الدقيقة للصفقة المُعلّقة للديون الأميركية، فإن ما يهمنا الآن هو التأمل في نتائجها وتداعياتها على محددات الاستقرار والنمو الاقتصادي العالمي خلال فترة التعليق.

إن أول ما يلفت الانتباه هنا هو أن هذه الصفقة ستزيد من قدرة الولايات المتحدة على الاستدانة -محليًّا ودوليَّا- لكن من دون أن تؤثر كثيرًا على محركات النمو الاقتصادي الأميركي نفسه. ومن ثم، فإن السيولة الدولية قد تتسارع بتسارع إصدارات أذونات وسندات الخزانة الأميركية، وهو ما يعني تراجعًا محتملًا في منحنى العائد للاستثمارات المالية الدولية ذات الآجال المتوسطة والطويلة.

وإذا واكب ذلك لجوء الفيدرالي الأميركي لتخفيف حدة التشدد النقدي، فإن انفراجة محتملة قد تحدث في سوق الديون الدولية، مع تدفقات تدريجية لرأس المال الدولي تجاه الأسواق النامية المُثقلة بالديون. ولعل ثاني وأهم ما يهمنا في تأملات ما بعد تعليق سقف الديون الأميركية، هو أن ذلك التعليق قد أتى في سياق تراخي النمو الصناعي الصيني خلال الشهور القليلة الماضية، مع توقعات باستمرار تراجع زخم النمو الصيني الذي كان مأمولًا بعد خروجها من سياسة صفر كوفيد.

وبينما تضمنت صفقة تعليق سقف الديون تعقيمًا لأثر هذا التعليق في النمو الأميركي، ومع ضعف متزامن للنمو الصيني، سيكون النمو الاقتصادي العالمي المولد من قطبيه الرئيسيين مهددًا بشدة خلال الشهور القليلة القادمة، وهو ما سينعكس بالتالي على حركة التجارة الدولية وعلى أسعار الطاقة الأحفورية، بما قد يدفع إلى تخفيض جديد للإنتاج النفطي من جانب «أوبك بلس».

عوض البريكي*

*باحث رئيسي- رئيس قطاع تريندز غلوبال، مركز تريندز للبحوث والاستشارات.