يمثل التوتر الراهن بين الأقلية الصربية في كوسوفو (أكثر قليلًا من 5%‏) وأغلبية سكانها من الألبان (حوالي 90%‏) امتداداً لتعقيدات تاريخية هائلة في العلاقة بين كوسوفو وصربيا منذ خضعت الأولى لحكم الثانية بعد أن خرجت من عباءة الحكم العثماني، واستمر هذا الخضوع سواء في عهد الملكية أو في ظل الاتحاد اليوغوسلافي بعد الحرب العالمية الثانية، وعندما تفكك الاتحاد السوفييتي شملت تداعيات هذا التفكك الاتحاد اليوغوسلافي الذي انقسم إلى ست جمهوريات كانت صربيا (وضمنها كوسوفو) واحدةً منها. وظل ميراث الحقبة الماركسية يمثل إشكاليةً حقيقيةً بالنسبة لعلاقة إقليم كوسوفو الذي ينتمي سكانه إلى القومية الألبانية بجمهورية صربيا التي ينتمي سكانها للقومية الصربية، ولأن المبادئ الماركسية لم تكن تعتبر القومية مثاليةً سياسية عليا، وإن اعترفت بها كحقيقة واقعية، فإن الممارسات الماركسية أعطت حقوقاً خاصةً للقوميات، كإسباغ وضع جمهورية فيدرالية أو جمهورية ذات حكم ذاتي أو إقليم ذي حكم ذاتي عليها داخل الدولة من ناحية، واتباع سياسات للمزج بين القوميات من خلال سياسات الاستيطان من ناحية أخرى. ولذا نجد على سبيل المثال سكاناً روساً في كازاخستان ومولدافيا وغيرهما من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، وهذا أحد مصادر الصراع الحالي في أوكرانيا؛ فمعظم سكان شرقها من الروس الذين يقطنون المناطق التي ضمتها روسيا بعد العملية العسكرية منذ فبراير 2022. وطالما بقيت ظاهرة عدم التطابق بين الحدود السكانية والحدود السياسية، بمعنى وجود سكان في دولة ما ينتمون لقومية موجودة في دولة أخرى، فسوف تبقى هذه المشكلات قائمةً، وفي ظل ظروف عدم الاستقرار الراهنة ستظل متفجرة ومهددة للسلم الداخلي والأمن الدولي، كما رأينا في الفضاءين السوفييتي واليوغوسلافي السابقين.
ويُعَد التوتر الراهن بين كوسوفو وصربيا نموذجاً مثالياً للتحليل السابق، بل إنه في مقدورنا ببساطة أن نؤسس نموذجاً تحليلياً يسترشد بالحالة الأوكرانية. وميزة هذه الطريقة أنها تسلط الضوء من ناحية على طبيعة مشكلات ما بعد زلزال تفكك الاتحاد السوفييتي، وتكشف من ناحية أخرى بصورة ساطعة عن ظاهرة ازدواجية المعايير الدولية، وبعبارة أخرى كيف أن المصلحة وليست أي اعتبارات قانونية أو إنسانية هي أساس سلوك الدول في الساحة الدولية. ففي هذا النموذج تحل صربيا محل أوكرانيا، ويحل إقليم كوسوفو التابع لصربيا أصلاً محل شرق أوكرانيا، وتحاول صربيا -كما تفعل أوكرانيا الآن مع إقليم دونيتسك- أن تحتفظ بالإقليم التابع لها أي كوسوفو، وقد حاولت بالفعل في الحرب التي دامت من فبراير 1998 إلى يونيو 1999 أن تحافظ على سلامتها الإقليمية، غير أنه نظراً لأن لكل صراع بيئته الخارجية التي تتلقى منها أطرافه الدعم كل من مؤيديه، فقد حصلت قوات تحرير كوسوفو على تأييد مباشر من حلف شمال الأطلسي تمثل في تدخله لحسم القتال، فيما حصلت صربيا على تأييد غير مباشر من روسيا. ولنتأمل في هذه المواقف التي تُعَد مقلوب مواقف الأطراف ذاتها في الحالة الأوكرانية. فحلف الأطلسي الذي يدافع الآن على السلامة الإقليمية لأوكرانيا هو ذاته الذي أجبر قوات صربيا في عام 1999على الانسحاب من كوسوفو، وروسيا التي دعمت الحركة الانفصالية في شرق أوكرانيا وضمته لاحقاً هي التي ساندت صربيا في محاولة الحفاظ على سلامتها الإقليمية.


*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة