لم يغب هنري كيسنجر عن الدبلوماسية ولم يعتزل عالم الدبلوماسية، وهو الذي يبلغ من العمر الآن قرناً كاملاً.
كيسنجر الرجل المحنك لم يفوت فرصة أن يكون حديث الساعة منذ أن دعاه الرئيس ريتشارد نيكسون إلى البيت الأبيض 1969 ليتولى منصب مستشار الأمن القومي ثم منصب وزير الخارجية الأميركي. فرض الرجل نفسه كشخصية دبلوماسية عالمية محنكة، وبقي سيد الدبلوماسية الأميركية حتى عام 1977 حين كانت الحرب الباردة في أوجها.
الدهاء الشديد والقدرة الفائقة على التفاوض مكنتا كسينجر من تحقيق انفراج العلاقات الأميركية مع الاتحاد السوفييتي، وتحسّن العلاقات مع الصين في عهد ماو تسي تونغ، ومن تمهيد الطريق – سراً - أمام نيكسون نحو بكين عام 1972.
شخصية بوزن وقيمة كيسنجر، من الطبيعي أن تتوجه نحوها الأنظار في الأحداث والقضايا التي تغير وجه العالم، وإنْ كان على مستوى الذكاء الاصطناعي، حيث لا تزال آراؤه موضع اهتمام الساسة والإعلام على حد سواء، وهو الذي حمّل الولايات المتحدة مؤخراً المسؤولية كاملة عن الأوضاع الملتهبة التي طالت أكثر من بقعة على الخريطة الدولية، إثر انتهاجها سياسة حافة الهاوية.
«الثعلب العجوز» أقر بأن رغبة واشنطن بجعل أوكرانيا عضو حلف شمال الأطلسي (الناتو) كان خطأ فادحاً، خصوصاً وأن روسيا كانت وعلى مدار قرون تتمتع بنفوذ كبير في المنطقة. ومن هذا المنظور جدد دعوته بأن تحتفظ أوكرانيا بوضعها كدولة محايدة على أن تكون جسراً للتواصل بين روسيا وأوروبا، شريطة أن تحتكم كافة الأطراف إلى المفاوضات والحوار بدلاً من الحرب الضروس التي لن تُبقى ولن تذر.
كيسنجر صاحب نظرية «استمالة بكين» في مطلع سبعينيات القرن الماضي كان قد نسق مع نيكسون لتطبيق دبلوماسية (البينغ بونغ) كي تبقى موسكو وحيدة في الميدان، وحين زارت رئيسة مجلس النواب الأميركي السابقة نانسي بيلوسي تايوان قبل عدة شهور حذر من تصاعد الخلاف بين أميركا والصين.
رائد المدرسة الواقعية في السياسة الأميركية وصاحب المدرسة المتفردة في إدارة الأزمات دبلوماسياً، كيسنجر، كان حاضراً في الشرق الأوسط منذ السبعينيات، وله صولات وجولات إبان حرب أكتوبر 1973 بين العرب وإسرائيل في محاولة منه لوقف الحرب وبدء مفاوضات بين أطراف الصراع، وقد تمكّن من التوصل إلى هدنة تم توقيعها في جنيف 4 نوفمبر 1973.
في حرب أكتوبر وتضامناً مع الموقف العربي، خفّضت دول الخليج إنتاجها من النفط، ثم أوقفت تصديره للولايات المتحدة الأميركية والدول المساندة لإسرائيل، وقد كان موقف الملك فيصل والشيخ زايد حاسماً وحازماً بهذا الخصوص، فتحرك كسينجر سريعاً لاحتواء الغضب العربي، نظراً لأنه كان يدرك حجم الخسارة التي سيتكبدها المواطن الأميركي نتيجة هذا القرار.
وكيسنجر ذاته دوّن في مذكراته جانباً من الحوار الذي دار بينه وبين الملك فيصل في جدة آنذاك في محاولة منه لإثناء الملك عن وقف ضخ البترول. ومما كتبه أنه أراد كسر حدة التجهم التي بدت على وجه الملك فيصل بدعابة، فقال له: «إن طائرتي تقف هامدةً في المطار، بسبب نفاد الوقود. فهل تأمرون جلالتكم بتموينها، وأنا مستعد للدفع بالأسعار الحرة؟» وحسب كيسنجر «لم يبتسم الملك، بل رفع رأسه نحوي، وقال: وأنا رجل طاعن في السن، وأمنيتي أن أصلي ركعتين في المسجد الأقصى قبل أن أموت، فهل تساعدني على تحقيق هذه الأمنية؟»
مضت السنين وها هو هنري كيسنجر يدخل مئويته بـ«ذاكرة رائعة» كما وصفها الكاتب الأميركي كريستوفر هيتشنز الذي انتقد مسيرته خلال عمله في الإدارة الأميركية. كيسنجر الذي شارك في أحداث ومفاوضات – سرية وعلنية – وشهد وعاصر وكان له موقعه في حروب كثيرة وكبيرة، نال جوائز ربما تفوق عدد وأهمية ما يحصده نجوم الفن والرياضة. حيث فاز بجائزة نوبل للسلام مع الفيتناميين الشماليين عام 1973، وكان فوزه بها محط جدل كبير. صحيح أنه حصل عليها «تقديراً» لجهوده في إنهاء حرب فيتنام وتوقيعه وقف إطلاق النار بعد مفاوضاته السرية مع السياسي الفيتنامي «لي دوك ثو» بالتزامن مع قصف هانوي، لكن هذا الأمر لم يلغِ احتجاج ورفض كثيرين منحه «نوبل» للسلام.