قد يبدو الحديث عن الاستثناء الأميركي غريباً، على اعتبار أنه قبل نحو أسبوع فقط كان يبدو كما لو أن الحكومة الأميركية جد منقسمة لدرجة أن المشرّعين سيفشلون في زيادة قدرة البلاد على الاقتراض، ما سيؤدي إلى عجز عن تسديد الديون من شأنه التسبب في كارثة اقتصادية ومالية على صعيد العالم. غير أنهم تمكنوا من زيادتها في النهاية، وإنْ في اللحظات الأخيرة. هذه الحلقة ذكّرتنا مرة أخرى بأن هناك في كثير من الأحيان فرقاً كبيراً بين التصور والواقع. فالتصور هو أن حكومة مختلة كانت تقود البلاد نحو خراب اقتصادي.

أما الواقع، فهو أن الولايات المتحدة تمتلك أشياء يغبطها عليها العالم، على الأقل حينما يُنظر إليها من خلال عيون المستثمرين. والواقع أن أسواق العملات والسندات والأسهم جميعها تبعث برسالة مماثلة مفادها أن أميركا هي المكان، حيث ينبغي للمرء أن يكون.

الأمر يبدأ بالدولار. يقال إن عملة دولة من الدول لا تختلف كثيراً عن سعر سهم شركة على اعتبار أنها تمثّل أفضل مؤشر على معنويات المستثمرين. ومؤشر بلومبرج الذي يقيس قيمة الدولار مقابل العملات الرئيسية الأخرى، أبقى على قيمة العملة الخضراء خلال الأشهر الخمسة الأولى من 2023، كما أن هذه الأخيرة أقرب إلى أعلى مستوياتها لهذا العام من أدناها.

صحيح أن بعضاً من ذلك له علاقة بمعدلات الفائدة المرتفعة التي يستطيع المستثمرون جنيها في الولايات المتحدة مقارنة مع بقية العالم المتقدم، ولكنَّ الاستراتيجيين المتخصصين في العملات بمجموعة «سيتي غروب» اكتشفوا أن هناك شيئاً آخر يحدث. ففي تقرير نشر الجمعة، كتب هؤلاء أن الرغبة في الحصول على الدولار مرتبطة جزئياً بالطلب المتزايد على الأسهم في شركات التكنولوجيا الأميركية، والتي يُنظر إليها على أنها المستفيد الرئيسي من طفرة صاعدة في الذكاء الاصطناعي.

وعلى هذه الخلفية، ارتفع مؤشر «ناسداك100» لأسهم التكنولوجيا بنسبة 33% هذا العام. ما هي تداعيات ذلك على الاقتصاد الكلي؟ تقديرات «بن إيمونز»، الخبير الاستراتيجي بمؤسسة «نيو إدج»، تشير إلى أن الذكاء الاصطناعي سينمو بسرعة ليتحول إلى سوق قيمتها 1.3 تريليون دولار و«يصبح مصدراً ضخماً للتوظيف... يعزز المبيعات والإنفاق الإعلاني في قطاع التكنولوجيا». والواقع أنه حتى لو تبين أن هذه التقديرات مبالغ فيها، فإن الذكاء الاصطناعي ليس العاملَ الوحيد الذي يفيد الولايات المتحدة في الوقت الراهن. ذلك أن قلة قليلة من الناس تفهم ما يعنيه تمرير «قانون خفض التضخم» في 2022 بالنسبة للاقتصاد الأميركي.

فعلى الرغم من اسمه الذي كان محل كثير من السخرية، إلا أن هذا القانون أطلق استثمارات رأسمالية ضخمة، إذ ارتفع حجم الإنفاق على البناء من قبل الشركات المصنعة في الولايات المتحدة بأكثر من الضعف خلال العام الماضي، ليصل إلى معدل سنوي يناهز 190 مليار دولار في أبريل.

ويمثّل قطاع الصناعة الآن حوالي 13% من كل الإنشاءات غير الحكومية، وهي أعلى حصة مسجلة في سلسلة بيانات تعود إلى أوائل التسعينيات. وعلى سبيل المثال، تستثمر شركة «إنتل» حوالي 20 مليار دولار حالياً لبناء مصنع لتصنيع الرقائق الإلكترونية في ولاية أوهايو، ومن جانبها، شرعت شركة «فورد موتور» العام الماضي في إنشاء مصنع في ولاية تينيسي لصنع الشاحنات الكهربائية. ثم عليك ألا تنخدع بكل تلك الأحاديث حول «التوقف عن استخدام الدولار». فالاعتقاد هو أن الولايات المتحدة «تستخدم الدولار سلاحاً» من خلال العقوبات المالية الثقيلة المفروضة على روسيا، بما في ذلك منع البنك المركزي الروسي من الوصول إلى احتياطياته من العملات الأجنبية. ولهذا، فإن البلدان التي تتعارض ميولها الإيديولوجية مع ميولات الولايات المتحدة قد ترغب في تحويل احتياطياتها إلى عملة إحدى الدول الصديقة.

وبالفعل، فعندما اجتمع وزراء خارجية البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا في كيب تاون الأسبوع الماضي، أفادت خدمة بلومبرج بأنهم طلبوا من بنك الكتلة تقديم نصائح واقتراحات بشأن كيفية اشتغال عملة مشتركة جديدة محتملة، بما في ذلك كيف يمكنها حماية البلدان الأعضاء الأخرى من تأثير عقوبات مثل تلك المفروضة على روسيا.

والواقع أن حكم القانون هذا هو ما يجذب رؤوس الأموال من كل أنحاء العالم إلى الولايات المتحدة في أوقات الرخاء وأوقات الشدة. ففي الأسبوع الذي سبق موافقة المشرّعين على رفع سقف الدّين، عرضت وزارة الخزانة الأميركية ما قيمته 120 مليار دولار من السندات التي مدتها سنتان وخمس وسبع سنوات. واللافت أنه على الرغم من كل التعليقات المتشائمة حول توجه الولايات المتحدة نحو تخلف مؤكد عن سداد الديون، إلا أن كل عملية من هذه العمليات جلبت طلباً أعلى من المتوسط بكثير من مجموعةٍ من المشترين الذين ينظر إليهم عموماً على أنهم وكلاء لمستثمرين أجانب.

وحصل من يُسمّون بالمزايدين غير المباشرين على 68.2% من الـ 42 مليار دولار من سندات السنتين المعروضة، وهو أكبر مبلغ لهذا الاستحقاق منذ 2009. أما بالنسبة لسندات الخمس سنوات البالغة قيمتها 43 مليار دولار، فقد حصلت على 72.7%، وهي ثاني أكبر نسبة مسجلة، في حين تم تسجيل 72.3% بالنسبة لسندات السبع سنوات المعروضة والبالغة قيمتها 35 مليار دولار. وخلاصة القول إن التصور هو أن الديمقراطية الأميركية معطوبة، ولكن الحقيقة هي أن الديمقراطية تتسم بالفوضى وصعبة. والواقع أنها كانت كذلك دائماً.

وقد أثبتت ذلك بجلاء معركةُ سقف الديون الأخيرة التي حدثت في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث كانت كل تطوراتها ومنعطفاتها موضع فحص وانتقاد وإشادة في الوقت الحقيقي. أو كما قال وينستون تشرشل، «إن الديمقراطية هي أسوأ أشكال الحكم، باستثناء كل الأشكال الأخرى التي تمت تجربتها». ويبدو أن الفاعلين في السوق يدركون ذلك، إذ اختاروا التركيز على واقع الاستثناء الأميركي، وليس على تصور أميركا المتراجعة.

روبرت برجيس*

*كاتب أميركي

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنسينج آند سيندكيشن»