عوّدتنا دولةُ الإمارات على المبادرات الاستثنائية ذات التأثير النوعي في الساحتين العالمية والإقليمية، فوجّهت بصفتها الرئيس الحالي لمجلس الأمن الدعوةَ للدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، لمخاطبة المجلس في حدث غير مسبوق لا يكتسب أهميتَه من المكانة الإسلامية للدكتور الطيب فحسب، وإنما أيضاً لكونه شريكاً مع البابا فرنسيس بابا الفاتيكان في الإنجاز الاستثنائي الذي بادرت به ورعته دولة الإمارات العربية لتوقيع وثيقة الأخوَّة الإنسانية التي مثَّلت نقلةً نوعية في مسيرة التفاهم الإنساني، وبالذات بين أتباع الديانتين المسيحية والإسلامية. ولا شك في أن المبادرة الإماراتية الأخيرة بدعوة الدكتور الطيب لمخاطبة مجلس الأمن تعزز ذاتَ الاتجاه، وهو ما يتضح من محتوى كلمة الإمام الأكبر التي بدأها بالإعراب عن سعادته بأن يكون حديثه للمجلس تلبيةً لـ«دعوة عزيزة من دولة الإمارات العربية المتحدة بصفتها عضواً منتخباً ورئيساً للدورة الحالية لمجلس الأمن. تلكم الدولة العربية الإسلامية التي لا تدّخر وسعاً في بذل كل جهد مخلص لنشر السلام بين الناس، وترسيخ مبادئ الأخوّة الإنسانية والتسامح والعيش المشترك». وقد ركَّز الطيب بالفعل في كلمته على البعد الإنساني للإسلام ونفْي الافتراءات عليه، لكي يبين أن الانطلاق من تعاليمه السمحة يمثل مخرجاً من الصراعات والكوارث التي يواجهها العالَم في كل مكان. وشدد الإمامُ الأكبرُ على أن ما أسماه «قانون الاختلاف» هو حجر الزاوية في مفهوم الخلق الإلهي للإنسان بكل ما يستلزمه من حقوق وواجبات حددها القرآنُ بوضوح، وفي مقدمتها حق حرية الاعتقاد الذي حرَّم القرآنُ مصادرته، واستشهد في هذا الصدد بآيات الذكر الحكيم مثل «لا إكراه في الدين»، وبالحديث الشريف: «من كره الإسلام من يهودي أو نصراني فإنه لا يُحول عن دينه»، وأسَّس على ذلك أن تكون العلاقة بين المختلفين ديناً ولغةً وثقافةً وحضارةً علاقة أمن وسلام عبَّر عنها القرآن بعلاقة «التعارف» («وجعلناكم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا»)، ومن هنا استبعدَ من منظور إسلامي نظرياتِ الصدام والصراع، ونظرية رسالة الرجل الأبيض وهيمنته على الآخرين واستنزاف خيراتهم.. ونفى بناءً على ذلك ما يُقال من أن الإسلام دين السيف والحروب، بل على العكس فإن الحربَ في الإسلام عملٌ استثنائي يُوَظَّف لضرورات دفاعية، وكذلك برَّأ الإسلامَ من شبهة المسؤولية عن الإرهاب، وألقى بهذه المسؤولية على عاتق سياسات الهيمنة العالمية والفلسفات المادية والمذاهب الاقتصادية المتنكرة لضوابط الأخلاق.
ثم استعرضَ الطيب حالَ العالَم اليوم وكيف أنه قصد بكلمته أن تكون دعوة لإطفاء الحروب العبثية التي اندلعت في العقود الأخيرة وما زالت تندلع، بادئاً بغزو العراق وأفغانستان والصراعات في سوريا وليبيا واليمن وفلسطين، ومشيراً إلى الحرب الدائرة الآن على الحدود الشرقية لأوروبا.. ومحذراً من تبعات هذه الحروب، وداعياً المجتمع الدولي لوقف فوري لهذه الكارثة، وإلى الاسترشاد بالقيم الدينية السمحة، مؤكداً أن خيارَ «المؤمنين بالله» هو مواصلة الدعوة إلى نشر السلام والمحبة، منوهاً بأن هذا هو ما يسعى إليه الأزهرُ الشريف بالتعاون مع الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الغربية والشرقية والمؤسسات الدينية الأخرى، اتساقاً مع روح وثيقة الأخوّة الإنسانية التي وقّعها في أبوظبي، في فبراير2019، من أجل السلام العالمي والعيش المشترك.

*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة