ظهر جنوبُ العالم فجأة في أوروبا، وعرض صنع السلام وسط أسوأ حريق في القارة منذ الحرب العالمية الثانية. وأنا أتحدث عن مهمة زعماء سبع دول أفريقية بقيادة رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامابوسا. وقام الزعماء أولاً بزيارة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، ثم نظيرَه الروسي فلاديمير بوتين. وكان الهدف المعلن للوفد هو التوسط بين فرقاء الحرب. وبذل رامابوسا قصارى جهده ليبدو متفائلاً. لكن زيلينسكي وبوتين لم يتركا مجالاً للشك في أن خطط السلام الأفريقية ضعيفةُ الحظوظ من النجاح. ورامابوسا هو واحد من بين عدد من قادة جنوب الكرة الأرضية الذين أثاروا الدهشةَ في كييف والغرب.

وظلت بلاده حتى الآن محايدة بشكل واضح في «الصراع» الروسي الأوكراني، كما يصر رامابوسا على تسميته وهو ما يثير استياء زيلينسكي. وامتنعت جنوب أفريقيا عن التصويت على قرارين للأمم المتحدة العام الماضي لإدانة العملية العسكرية الروسية. وفي الأولى، اختارت 35 دولةٌ عدمَ المشاركة في التصويت، وفي المرة الثانية لم تشارك في التصويت 58 دولة. وجنوب أفريقيا متَّهمة بتزويد روسيا سراً بالأسلحة، وهي تنفي ذلك، لكن مجموعة من المشرعين الأميركيين من الحزبين طالبت البيتَ الأبيضَ بمعاقبتها بنقل مؤتمر تجاري كبير إلى مكان آخر في أفريقيا.

كيف يجب أن يتعامل «الغرب» مع «الجنوب» في الصراعات الجيوسياسية الأوسع في عصرنا؟ على كل حال، سيحتاج الغرب إلى بقية الدول لأنه لا يواجه روسيا فحسب. وقد يستخدم الغربُ قوتَه الاقتصادية لإكراه دول الجنوب أو إقناعها بالوقوف إلى جانبه ومعاقبة هذه الدول عندما لا تلتزم. وهذا يعني الاستماع إلى مخاوف الجنوب ومعالجتها. وإحدى طرق تفسير الحياد المستمر للجنوب في الصراع بين أوكرانيا وروسيا، وكذلك في المواجهة بين الولايات المتحدة والصين، هي الواقعية قديمة الطراز. فحين يكون العالَم متعدد الأقطاب، لن يتضح من سيمتلك القوةَ في المستقبل. ولذا فإن أفضل استراتيجية لبلدان كثيرة هي التحوط. ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، على سبيل المثال، يجمع في علاقاته بين واشنطن وموسكو وبكين. والعقبة الأكبر هي السخرية المنتشرة في جنوب الكرة الأرضية حول التذرع الغربي بـ«النظام القائم على القواعد» الذي يجب الدفاع عنه في أوكرانيا، فلم تكن بلدان كثيرة في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية على الطاولة حين وضعت هذه القواعد. والمنتصرون في الحرب العالمية الثانية هم الذين وضعوا أسس الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومن أجلهم، في وقت كانت تلك القوى ما تزال تستحوذ على قطاعات واسعة في أفريقيا وآسيا.

وإذا كانت الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة أو فرنسا أو الصين أو روسيا لا تحب قراراً في مجلس الأمن، فإنها تستخدم ضده حق النقض (الفيتو). ولا يمكن لأعضاء المجلس العشرة غير الدائمين القيامَ بذلك، وقد يكون اثنان أو ثلاثة فقط من هؤلاء أفارقة على أية حال. وفي هذا النظام ما زالت القوى الغربية تشن الحربَ وقتما تشاء، كما حدث مع العراق وأفغانستان وليبيا، على سبيل المثال. وهم عادة لا يهتمون بالعواقب طالما أن تلك الحروب لا تؤثر إلا على جنوب الكرة الأرضية.وقائمة النفاق الغربي طويلة، لذا يتساءل الناس في الجنوب: لماذا يجب أن يدافعوا عن النظام القائم على القواعد في وقت ترفض فيه الولايات المتحدة التصديق على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار؟ ولماذا يجب أن يلتفتوا إلى مذكرات التوقيف الصادرة من المحكمة الجنائية الدولية إذا كانت أميركا لا تعترف بهذه المحكمة؟

ربما يكون تعاطف الأميركيين الشماليين والأوروبيين أكبر مع اللاجئين والضحايا الأوكرانيين من التعاطف مع السودانيين أو التوتسي. وكما قال وزير الشؤون الخارجية الهندي «إس. جايشانكار»، في عبارة انتشرت على نطاق واسع، فإن الغرب يميل إلى «عقلية أن مشكلات أوروبا هي مشكلات العالم، لكن مشكلات العالم ليست مشكلات أوروبا». لذا يجب على الغرب عرض صفقة جديدة على الجنوب، جزء منها يجب أن يكون إصلاحاً للأمم المتحدة. وعلى الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن التخلي عن حق النقض، فليس من الصواب أن تبقى دولتان أوروبيتان متوسطتا الحجم تتمتعان بمقعدين دائمين في حين أن دولاً ذات ثقل سكاني هائل مثل إندونيسيا أو الهند لا تملك ذلك. ويتعلق العنصر الأكثر وضوحاً في الاتفاق العالمي الجديد بتغير المناخ.

وتتحمل الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، مسؤولية تاريخية غير متناسبة عن الغازات المسببة للاحتباس الحراري، لكن الجنوب العالمي يتحمل نصيباً كبيراً من العواقب، من الجفاف والمجاعات إلى الفيضانات والهجرات. ولذا على الدول الغربية الغنية أن تحمل الأمر محمل الجد تجاه تمويل التكيف مع تغيرات المناخ في الجنوب. وعلى الغرب الاعتراف بأن كثيراً من أمور السياسة العالمية اليوم غير عادل وأنه يجب الاستماع إلى الجنوب وحمله في السفينة. وليتوقف الغرب عن الوعظ، ويبدأ في الاستماع إلى الجنوب.

*رئيس التحرير السابق لمجلة «هاندلزبلات جلوبال» الألمانية.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسينج آند سيبنديكيشن»