كشفت حادثة مقتل الشاب نائل ذي الأصول الجزائرية على يد شرطي فرنسي عن عمق الأزمة الاجتماعية التي تعانيها فرنسا، ولاسيما في السنوات الأخيرة، برغم الجهود المكثفة التي تبذلها الحكومة لتحقيق إصلاحات جذرية، وخاصة مع تنامي الرفض الشعبي لبعض سياسات وقرارات الحكومة، في وقت يتعزز فيه نفوذ اليمين مع تصاعد حدة الانتقاد للهجرة والمهاجرين، ما يفاقم من حدة التحديات الداخلية التي تواجه حكومة ماكرون.

إن حادثة مقتل شخص على يد الشرطة في فرنسا في الحقيقة أمر نادر، ولكن حوادث التمييز في تعامل الشرطة مع ذوي الأصول المهاجرة، وخاصة من أفريقيا أمر لا يمكن إخفاؤه. وهناك بالفعل جهود حكومية لاحتوائها والتعامل معها. وقد لقيت الحادثة الأخيرة تنديدًا واسعًا من قبل كبار المسؤولين، وفي مقدمتهم الرئيس ماكرون.

ولكن ما فجّر الوضعَ هو أن وزير الداخلية، جيرالد دارمانان -المعروف بمواقفه ضد المهاجرين وحتى الإسلام- حاول التغطية على الحادث، بينما أظهر الفيديو المنشور بعد وقت قصير من الحادثة أن الشرطي أطلق النار على فتى بشكل متعمد، ولم يكن في حالة دفاع عن النفس، حيث لم يكن هناك أي خطر على حياة الشرطي. وهو ما دفع السلطات إلى اعتقاله مباشرة، حيث وجّه له الادعاء الفرنسي تهمة القتل العمد.

ولكن ذلك كله لم يمنع آلاف الفرنسيين -مهاجرين وغير مهاجرين- من الخروج في مظاهرات واحتجاجات تخلل بعضها أعمال عنف استنكرها الرئيس الفرنسي واعتبرها غير مبررة، لأنها تستهدف مؤسسات الجمهورية.

ومع ذلك، فإن حادثة القتل هذه لا تبدو هي وحدها التي حركت الشارع الفرنسي، فما فاقم الوضع هو أنها جاءت في سياق حراك اجتماعي قد يكون غير معهود في شكله وتعقيداته في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة، حيث بدأ فعليًا في عام 2018 بانطلاق احتجاجات السترات الصفراء للتنديد بارتفاع أسعار الوقود، وتكاليف المعيشة عمومًا، ثم تحولت إلى حركة اجتماعية تطالب بإصلاحات ضريبية تنصف الطبقتين العاملة والمتوسطة.

وما إن خفت وتيرتها مع جائحة كوفيد-19، حتى تفجرت الاحتجاجات على بعض السياسات والقوانين التي تبنتها الحكومة مؤخرًا، ومن بينها قانون التقاعد الذي أجازه الرئيس ماكرون، دون الرجوع للبرلمان. ومن ثم، جاءت هذه الحادثة لتلقي الضوء مجددًا على قانون الشرطة الذي أجريت عليه تعديلات جوهرية عام 2018، منحت بموجبها عناصر الأمن صلاحياتٍ واسعة، ولا سيما فيما يتعلق باستخدام السلاح.

وهذا بالطبع أسهم في تقويض أو ربما إضعاف ثقة الجمهور في جهات إنفاذ القانون. ومن ثم، فلا شك أن الحادثة ستؤدي إلى مناقشات بشأن استخدام القوة بشكل مفرط أو غير مبرر من قِبل الشرطة، ومن ثم إعادة النظر في القانون، وربما تعديله، وإجراء إصلاحات تهدف لمنع وقوع حوادث مماثلة في المستقبل، بما فيها تعزيز آليات المساءلة والرقابة. كما أن الحادثة قد تشعل التوترات الاجتماعية وحتى السياسية، ولاسيما سياسات الهجرة، بعد تغذية الخطاب العام حول معاملة المهاجرين، والقضية الأوسع فيما يتعلق بالتمييز، ومن ثم قد يؤدي الحادث إلى احتجاجات ومظاهرات تطالب بالعدالة وتغييرات في سياسات الهجرة، حيث سلطت هذه الاحتجاجات الضوء على قضايا منهجية أخرى غير عنف الشرطة تتعلق بعدم المساواة أو افتقاد العدالة الاجتماعية.

وعلى كل حال، فإن هذه الحادثة، رغم أنها ستطوَّق بعد محاكمة الشرطي، فإنها ألقت الضوء على قضايا مهمة تحتاج إلى إعادة نظر من الدولة. وربما تتطلب، كما يرى كثير من المراقبين، إصلاحات دستورية، وهو ما جعل البعض يتحدث عن أن فرنسا قد تتجه نحو الجمهورية السادسة.

ريم ابراهيم الحوسني
باحثة- إدارة الباروميتر العالمي- تريندز للبحوث والاستشارات.