جرى العرف أن يعطي الحَبر الأعظم، بابا الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، تصريحات لا سيما لإذاعة الفاتيكان، أو لصحيفة الأوسرفاتوري رومانو، وكلتاهما تمثلان مصادر النطق الرسمية للكرسي الرسولي، ولم يكن البابا بوارد الحال، أن يعطي حوارات صحفية بالمرة. كان ذك قبل المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني بنوع خاص (1962-1965)، وقبله كذلك لم يكن البابا وبخاصة في أوقات الاحتفالات الرسمية يخطو على الأرض بقدميه، بل تحمله محفة على الأكتاف. مثّل المجمع بداية لزمن التغيير والتطوير في أروقة الكنيسة الكاثويكية، وأسس لزمن جديد يتم التفاعل فيه مع خارج أسوار الفاتيكان، بصورة عصرانية.

والشاهد أنه حال أردنا تذكر الحوارات المهمة التي أجراها أي بابا خلال العقود الستة المنصرمة، فإننا سنجدها تعد على أصابع اليد الواحدة، وربما كان البابا فرنسيس هو الأكثر انفتاحاً على الصحافة العالمية، منذ أن جلس سعيداً على كرسي ماربطرس. غير أنه من المفارقة القول إن حظ الصحافة العربية من مثل تلك اللقاءات، كان العدم، إذ لم تكن هناك أي وسيلة إعلام عربية قد استطاعت الحصول على حوار مع أي بابا سابق.

وفي هذا السياق تظهر أهمية السبق الكبير الذي أحرزته «الاتحاد» الغراء، من خلال حوار رئيس تحريرها حمد الكعبي مع البابا فرنسيس، حوار صريح وواضح، يسهم في تعزيز العلاقات الإماراتية مع الكرسي الرسولي. يلفت الانتباه في بداية الأمر، تلك المعرفة الواضحة والشفافة من فرنسيس، تجاه تاريخ الإمارات بشكل عام، والدور الخلاق الذي قام به الأب المؤسس زايد الخير، طيب الله ثراه في هذا الإطار. يثني فرنسيس على المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، ويعتبره بمثابة القائد الرائع بعيد النظر الذي اختار أن يبني الإمارات على قواعد من التسامح والتعايش، وأن يفتح قلبه للشباب، وييسر بناء عملية تعليمية رائدة، دفعت الإمارات في طريق نجاحات جاوزت الأرض إلى السماء.

الجميل في إدراك فرنسيس كذلك، يقينه بأن أبناء زايد يمضون على المنهج نفسه، ومن هنا يأتي تقديره لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، والذي يقود رسالة تنويرية حقيقية على صعيد الإنسانية برمتها، من خلال نشر ثقافة التسامح والسلام بالمنطقة والعالم. قليلون الذين يعلمون الخلفية الفكرية والعقلية لفرنسيس، والقادم من رحم الرهبنة اليسوعية، أي الجماعة المفكرة جداً، والتي تمثل عقل الكنيسة الكاثوليكية المنطلق في الأفق منذ أزيد من أربعمائة عام، ومن هنا يدرك المرء عمق نظرته لثراء الإمارات، ذلك الثراء الذي لا يتمثل في مقدراتها المالية أو مواردها الطبيعية فحسب، وإنما يتركز حول دورها الملموس والمحسوس في نشر قيم السلام والأخوة والتعايش والدفاع عنها، وهذا ما تقوم به الإمارات قولاً وفعلاً.

أعظم ما يميز الدور الإماراتي، بحسب تصريحات فرنسيس لحمد الكعبي رئيس تحرير «الاتحاد»، أنها تستثمر في ثقافة تعزز انحسار الحقد، وتسهم في نمو الحضارة وازدهار شأن الإنسان، والسعي معاً على طريق عالم أكثر إنسانوية. يعيش فرنسيس على الدوام في أجواء واحدة من أنجح زياراته للعالم الخارجي، أي زيارته لدولة الإمارات العربية المتحدة في عام 2019، تلك التي أفرزت وثيقة «الأخوة الإنسانية»، والتي يفخر بأنه يقدمها هدية لكل من يزوره في موقعه الديني الكبير، ويسعده أنها باتت ركيزة أممية يحتفل بها على صعيد العالم الراغب في تجاوز الألم لجهة المزيد من المودات.

لم يكن هذا الحوار ليتجاوز نازلة من نوازل الكراهية والتعصب، ونعني بها واقعة حرق نسخة من القرآن في السويد، وقد عبر فرنسيس عن غضبه واشمئزازه من هذا التصرف، معتبراً أن أي كتاب مقدس من أصحابه، يجب أن يُحترم احتراماً للمؤمنين به، ولا يجب أبداً استغلال حرية التعبير كذريعة لاحتقار الآخرين. نهنئ الاتحاد ورئيس تحريرها على هذا الحوار غير المسبوق، فالتهنئة واجبة لكل أصحاب النوايا الصالحة الذين يقرؤون سطوراً تشعُ نوراً.

*كاتب مصري