في عام 300 قبل الميلاد ولد عالم الرياضيات اليوناني الشهير «إقليدس»، لا أحد بإمكانه نسيان ذلك الاسم الكبير، ففي كل عام يدرس ملايين الطلاب الهندسة الإقليدية التي تنتسب إليه.

في عام 2023 صعد اسم إقليدس إلى أعلى ليدور على ارتفاع مليون ونصف المليون كيلومتر من سطح الأرض. فعند ذلك الارتفاع الشاهق يعمل التلسكوب إقليدس - الذي أطلقته وكالة الفضاء الأوروبية - على تصوير الظلام الكوني. على مدى عشر سنوات عمل العلماء والمهندسون على تصميم ذلك التلسكوب الفضائي، والذي يحمل كاميرات أكثر دقة من أي وقت مضى، لكى يرسم خريطة ثلاثية الأبعاد للكون، ومعرفة خصائص المادة المظلمة.

يتشكل أغلب الكون من الظلام، ويقدر العلماء مجموع الطاقة المظلمة والمادة المظلمة بنحو (95%) من الكون، وقد حظيت أبحاث المادة المظلمة باهتمام أكبر بعد منح ثلاثة علماء عملوا على سبر أغوارها جائزة نوبل في العلوم. لا تتفاعل المادة المظلمة مع الضوء، ويتشكل ذلك القطاع المظلم من مادة شفافة غير مرئية، لايزال من المستحيل رصدها، وإنما يتعقب العلماء آثارها، عبر تأثيراتها على الجاذبية.

لا شيء يقينياً في كل هذا الأمر، فالمادة المظلمة تظل فرضية علمية قابلة للدحض، ونظرية الجاذبية في الفضاء وتعديلاتها اللاحقة على جاذبية نيوتن لاتزال هي الأخرى غير محسومة، ومع كل جديد من صور الفضاء القادمة يجري استبعاد فرضيات وتقديم أخرى، أو طرح فرضيات جديدة. هنا تتأتى الأهمية الكبرى للتلسكوب إقليدس، الذي عليه أن يرسل كل ما يرى لكى نفهم ما سبق من تاريخ الكون من حيث الزمان، وموقع الأرض من الكون من حيث المكان.

الأمر يشبه محاولتنا معرفة مكان ما من موقعنا حين ندير محرك السيارة، وذلك باعتماد خرائط جوجل ونظام «جي بي إس». لكن الهدف هنا يتعلق بأمر أعظم وهو معرفة موقع كوكبنا في خريطة الكون. أين يقع كوكبنا؟.. هل نحن شرق الكون أم غرب الكون؟

هذا إذا أمكن القول بأن هناك ثمّة شرقاً أو غرباً.. وهل تقوم المادة المظلمة حقاً بعمل دعامات أو سقالات لكى تحتفظ المجرات بشكلها الخارجي؟ وهل يتسارع تمدد الكون حقاً أم أنه ثابت؟

وهل ذلك التمدد يمضي بسرعة واحدة في كل أرجاء الكون أم بسرعات متفاوتة؟ وهل يستمر الكون في التوسع إلى ما لا نهاية، أم أن النتيجة النهائية ستكون انهيار الكون؟

سيكون على إقليدس أن يساعد في الإجابة عبر (6) سنوات عمل متواصل.. قد بدأت للتوّ. كم هو معقد ذلك الإنسان، إنه يدرك تماماً أن كوكبه بأكمله لا شيء في هذا الكون، ومع ذلك ينتفخ بالغرور والصلف وسوء التقدير. وبينما يرسل مركباته لمعرفة كيف يعمل الكون، تفاقِم سياساته من الجوع والفقر.. ومن الحرّ والدم. سيكون بمقدورنا معرفة الكثير عن الكون، لكن ما ليس بمقدورنا حتى اللحظة.. معرفة الكثير عن أنفسنا.

*كاتب مصري