قبل أكثر من ثلاث سنوات بقليل، كانت شركة «تي إس إم سي» التايوانية لصناعة أشباه الموصلات من بين عمالقة التكنولوجيا الأكثر تركزا جغرافياً في العالم، حيث كانت قدرتها الإنتاجية تقريباً تقع ضمن دائرة يبلغ قطرها 482 كيلومتراً.

ولكنها اليوم باتت على وشك أن تصبح واحدة من أكثر شركات تصنيع الرقائق تنوعاً في العالم. وهذا لم يكن أمراً مخططاً له، فحسبما أعلنت الشركة الموجود مقرها في هسينشو يوم الثلاثاء الماضي، هناك منشأة جديدة بالقرب من مدينة دريسدن الألمانية من المقرر أن تبدأ عملياتها في 2027.

وإلى جانب الخطط الحالية، سيكون لدى «تي إس إم سي» مصانع في خمسة بلدان موزعة على ثلاث قارات لمواجهة تمدد منافسيها «إنتل» و«سامسونغ إيليكترونيكس». وتنضاف هذه المصانع الخارجية إلى العمليات المهمة التي لديها في تايوان والموقعين الحاليين في الصين. والواقع أنه لطالما كان قرب كل عمليات التصنيع من مقر الشركة ميزةً لمصنع الشرائح المصنوعة حسب الطلب، فقد ساعدت العلاقة الوثيقة بين البحث والتطوير، وعمليات المصنع، حيث يمكن للمهندسين التنقل بسهولة بين خطوط الإنتاج، في أن تصبح «تي إس إم سي» مورّدا سريع الحركة في قطاع ينطوي على رهانات كبيرة جدا. وكان إنشاء مصانع عبر العالم يهدِّد بتقويض هذه الميزة.

ولكن بعد ذلك انطلق التوسعُ العالمي الحقيقي لشركة «تي إس إم سي» في مايو 2020 مع الإعلان عن منشأة جديدة في ولاية أريزونا الأميركية، مشروع تم تحسينه بعد عامين من ذلك ليشمل مصنعاً ثانياً في الموقع، مما رفع إجمالي الاستثمار في الولاية الواقعة جنوب غرب الولايات المتحدة إلى 40 مليار دولار. ثم أخذ مشروعٌ مع شركة «سوني» اليابانية، تم الإعلان عنه في 2021، «تي إس إم سي» في اتجاه جديد. إذ عِوضا عن امتلاك مصنع بشكل مباشر، ستحصل شركة «سوني سوميكوندكترز سلوشنز» على حصة 20% في مصنع يتم بناؤه حاليا في كوماموتو. وفي وقت لاحق، وافق مورّد مكونات السيارات «دينزو» على الحصول على حصة تفوق 10%. وتُعد دريسدن استمراراً لهذا المسار المتمثل في العمل مع العملاء لامتلاك منشآت إنتاج بشكل مشترك من أجل تلبية الطلب المتزايد على المكونات المستخدمة في السيارات بشكل رئيسي.

ومن المرتقب أن تستثمر شركة «تي إس إم سي» ما يصل إلى 3,5 مليار يورو مقابل الحصول على حصة 70% في شركة «تصنيع أشباه الموصلات الأوروبية» المشكَّلة حديثاً. كما ستحصل كل من «بوش» و«إنفينيون تكنولوجيز» و«إن إكس بي سوميكونداكترز» على حصة 10%، ومن المتوقع أن يصل إجمالي النفقات الرأسمالية إلى حوالي 11 مليار دولار، وأن تأتي الأموال من مصادر مثل الأسهم والديون والتمويل الألماني والأوروبي.

ومنذ تأسيسها من قبل موريس تشانغ قبل أكثر من ثلاثة عقود، تجنبت «تي إس إم سي» شراكات الأسهم في مسعى للحفاظ على السيطرة الكاملة على عملياتها، وبالتالي مصيرها. ولكن الرياح العالمية تغيّرت، ولم يكن أمام قائديها الجديدين، رئيس مجلس الإدارة مارك ليو والرئيس التنفيذي سي سي وي، خيار سوى التكيف مع الوضع الجديد. والواقع أن الوضع المالي لشركة «تي إس إم سي» قوي، وتدفقها النقدي مستقر، وتصنيفها الائتماني مرتفع. وبالتالي، فإنها ليست في حاجة إلى عملاء أو حكومات لتسلّمها أموالا من أجل دفع ثمن هذه المنشآت الجديدة.

غير أن ما تحتاجه هو المشاركة. فهذه المصانع القصية والموجودة في مواقع تبعد عن مقر الشركة تتطلب أوامر صارمة بالإضافة إلى التزام قوي من أطراف ثالثة لديها دوافع قوية لضمان نجاح الشركة. ولا شك أن وجود شركات مثل «سوني» و«إينفينيون» و«إن إكس بي» على قائمة الملكية يضمن أن لها مصلحة في العملية، بينما يفترض أن تساعد مشاركةُ الحكومات في تأمين الدعم السياسي والاقتصادي.

وهكذا، انتقلت «تي إس إم سي» فجأة من كونها مورّدا تايوانيا لا يلفت الانتباه ويركز فقط على مجموعة من عملاء أشباه الموصلات، إلى كيان عالمي لديه العديد من المساهمين الموزعين عبر العديد من البلدان. ولكن تدريجيا بدأ يتبين أنه تكيفٌ صعب. فالشهر الماضي، أعلن ليو تأجيل افتتاح مصنع أريزونا بنحو عام. والوقت المستغرق في استيفاء الشروط واللوائح المحلية وصعوبة إيجاد المواهب والكفاءات المطلوبة، بما في ذلك بين الباعة، يعنيان أن «تي إس إم سي» لن تبدأ عملياتها هناك حتى 2025.

والأسبوع الماضي، وقّعت الشركة اتفاقية مع حاكمة ولاية أريزونا «كاتي هوبز» حول اتباع برنامج يتعلق بسلامة العمال ويُعد أكثر صرامة من القوانين الفدرالية، وهو مؤشر على أن «تي إس إم سي» بحاجة إلى مواصلة التكيّف مع المشهد التنظيمي المتغير. غير أن استمرار المخاوف بشأن الأجور وظروف العمل بين العمال المحليين يعني أن نزاعا عماليا يمكن أن يندلع في أي وقت، وهو وضع غير معتاد في مقر الشركة في تايوان.

والمفاجئ أيضا هو حجم الاختلاف المتصاعد بين التكاليف في الولايات المتحدة وتايوان، والذي من المحتمل أن يجبر صناع الرقائق على زيادة الأسعار بشكل مهم على عملاء مثل شركة «آبل» و«نفيديا» مقابل المنتجات المصنوعة في ولاية أريزونا.

وبالمقابل، يبدو أن مشروع اليابان ما زال على مساره الصحيح حيث من المتوقع الشروع في الإنتاج أواخر العام المقبل، مع وجود فرصة كبيرة لإضافة مصنعٍ ثانٍ إلى المشروع. غير أنه على الرغم من الـ60 مليار دولار التي سيتم إنفاقها في المجمل من قبل كل الأطراف، فإن المنشآت الجديدة لن تمثّل أكثر من 10% من قدرة الإنتاج العالمية. ثم إن المصانع لن تكون متكافئة، إذ ستبقى أفضل العناصر في تايوان خلال المستقبل المنظور، مع استخدام كل من دريسدن وكوماموتو تكنولوجيا إنتاج أقدم بكثير - وهو أمر لا يطرح أي مشكلة في الواقع لأن الرقائق الإلكترونية المستخدمة في السيارات لا تحتاج لأشياء أحدث. غير أنه ليس لدى هؤلاء الشركاء الأجانب سبب للشكوى.

فالعملاء سيحصلون على حصة في المصانع وعلى الخبرة التقنية التي يحتاجون إليها تحديداً. وفي الأثناء، بوسع الحكومات أن تخبر ناخبيها بأنها نجحت في جذب أهم شركة تكنولوجيا في العالم إلى أراضيها. ثم إن «تي إس إم سي» فائزة أيضا. فقبل خمس سنوات فقط، حذّرت الشركة المستثمرين من أن المفوضية الأوروبية تحقق في مخاوف بشأن ما يُزعم أنها «ممارسات مخالفة للمنافسة» تتعلق بمبيعات أشباه الموصلات. كما أبدت «لجنة التجارة العادلة الأميركية» اهتماما بالموضوع نفسه أيضا، حسبما أفادت تقارير حينها.

تلك التحقيقات لم تسفر عن أي شيء، غير أنه سيكون عدم اللباقة أن تتهم الجهاتُ الرقابية في أي من السلطتين «تي إس إم سي» الآن بأنها عملاق تكنولوجيا مفترس في وقت بذلت فيه هذه الأخيرة كل ما في وسعها (وأنفقت مليارات الدولارات) في سبيل إنشاء فرع على أراضيهما. ثم إن هذه المصانع الخارجية تعمل أيضاً على التخفيف من الشكاوى والانتقادات المستمرة بين المنافسين من أن «تي إس إم سي» تتمركز بشكل مفرط في مكان واحد، وأن على الحكومات وعملاء الرقائق الإلكترونية البحث في مكان آخر. الآن، ها هي الشركة توفّر لهم ذاك «المكان الآخر». إذ من المرتقب أن يحصل نصف العالم على قطعة من «تي إس إم سي»، وبالمقابل، كل ما كان على صانع الرقائق فعله هو الجنوح إلى العولمة.

*كاتب متخصص في الشؤون التكنولوجية

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنسينج آند سيندكيش»