«ينتابني شعور/ بأنه لن يدوم». هكذا يقول فيليب لاركين ضمن قصيدته «الرحيل» التي يتحسّر فيها على الريف الإنجليزي -- كون التطور سيغطي قريباً كل ما هو أخضر وجميل في بلاده التي هي عبارة عن جزيرة. نظم لاركن أبيات شعر في 1972 حملنت خوفاً على تدهور الريف الإنجليزي، واستناداً إلى الزيارة التي قمتُ بها إلى إنجلترا واسكتلندا هذا الصيف، يمكنني القول إن مخاوفه كانت مبكرة وسابقة لأوانها. ذلك أن الرؤية «المحافظة» البريطانية، التي كان «لاركن» ممثلاً غريب الأطوار لها، كانت لها دائماً سمة «مُحافظة» أقوى مقارنة مع قريبتها الأميركية. ويحق للنوع الأكثر خضرة من المحافظة البريطانية أن يفخر بالمناظر الطبيعية التي تزخر بها بلدها: الأحزمة الخضراء التي تحيط بالمدن الرئيسية، والبلدات الصغيرة ذات المظهر القديم، والممرات الريفية التي ما تزال مخصصة للعربات التي تجرها أحصنة، وإن سُمح لك بالمرور على متن مركبة.

ولكن هذه المحافظة تنبعث منها رائحة موت وتحنيط للأسف. ذلك أنه في الوقت الذي تبدو فيه أوروبا في حالة ركود عموماً مقارنة بالولايات المتحدة، انضمت بريطانيا إلى إيطاليا باعتبارها أكثر رجال القارة مرضاً: بمستويات معيشة متخلفة كثيراً عن مستويات جيرانها، واقتصاد عالق في حالة سبات منذ 15 عاماً، وخدمات عامة، بما في ذلك نظامها الصحي العمومي الـ«إن إتش إس» الذي يُفتخر به، في حالة متردية باعتراف الجميع. حزب «المحافظين»، الذي تولّى السلطة خلال معظم هذه الفترة، كثيراً ما يلقى عليه باللوم ويحمَّل مسؤولية دعم التقشف بعد الأزمة المالية والبريكست.

غير أن المشكلة الأعمق تكمن في تثبث «المحافظين» بمواقف انفعالية بدلاً من محافظة إيديولوجية -- قاعدتهم الشعبية أكبر سناً، وتمتلك ممتلكات، وراضية على ما يبدو عن الحفاظ على المناظر الطبيعية العزيزة على قلب لاركين عبر منع البناء أو التطوير وجعله مستحيلاً في أي مكان. والواقع أن هذه مشكلة عامة بالنسبة للبلدان الغنية والتي تعاني من الشيخوخة، كما أسلفتُ، غير أن بريطانيا ذهبت في هذا الأمر مذهباً بعيداً، إذ تشير بعض التقديرات إلى أن أسعار المساكن لم تكن في يوم من الأيام بمثل هذا الارتفاع مقارنة بالأجور منذ سبعينيات القرن التاسع عشر. وهذا يمثِّل عقاباً لجيل الشباب على المدى القصير، ويعمّق الركود طويل الأمد الذي يؤخِّر الزواج وإنجاب الأطفال.

كما أنه يؤثر بشكل سلبي على النقاشات الثقافية، لأن الحكومات التي تسعى وراء النمو اختارت زيادة الهجرة على الرغم من تعثر خططها الخاصة بالتنمية – الأمر الذي يزيد بالفعل من الناتج المحلي الإجمالي إلى حد ما، ولكنه يجعل المهاجرين أنفسهم، في الوقت نفسه، يبدون وكأنهم سبب في ارتفاع أسعار المساكن، مما يزيد من مشاعر انعدام الثقة.

ومن أجل نظرة على نقص السكن في بريطانيا، أُوصي بقراءة مقال «لماذا لا تقوم بريطانيا بالبناء»، للكاتب صمويل واتلينج في مجلة «ووركس إن بروغريس» الإلكترونية، والذي يصف الرؤية الحضرية للجنة التخطيط المركزية البريطانية عقب الحرب العالمية الثانية: نظام من «المدن الجديدة» المكتظة بالسكان والمتصلة بالمركز في لندن من خلال خطوط شبكة السكك الحديدية، تفصل بينهما الكثير من المناطق الريفية المحمية.

غير أن المخطِّطين قلَّلوا من أهمية معارضة البناء المكثف حتى في مناطق «المدن الجديدة»، في حين بات من المستحيل إعادة تصنيف المناطق التي تُعتبر «حزاماً أخضر»، ولهذا كانت هناك دائماً كثافة أقل وأراض محمية أكثر مما تصورته الرؤية الأولية. وبينما أصبحت بريطانيا ثرية وازداد عدد مالكي المنازل، ازدادت المعارضة للمباني الجديدة وتُركت السلطة المركزية بسلطة نظرية ولكن بدون تفويض حقيقي – فكانت غير قادرة على إلغاء المركزية وإلغاء القوانين التنظيمية، أو بكل بساطة غير قادرة على تمرير بناء جديد.

خلال زيارتنا الصيفية، شعر «المحافظون» مرة أخرى بالإحباط في وقت اقترح فيه وزير الدولة لشؤون التنمية الاقتصادية والإسكان والمجتمعات «مايكل غوف» تطويراً حضرياً جديداً، يصل إلى 250 ألف مسكن، حول بلدة كامبريدج الجامعية – ليقابَل بتوبيخ سريع من عضو محافظ في البرلمان، وصف رؤية «غوف» بأنها «خطط تافهة».

ومن بعض النواحي، يبدو أنه من غير المنصف أن ينتقد أميركي هذا الموقف، بالنظر إلى مدى استمتاع أسرتي برحلاتنا الريفية. ولكن ذلك يمثِّل أيضاً جزءاً من المشكلة: ذلك أن بيع تجربة المتحف لأبناء العمومة الأمريكيين يدرّ مالاً، ولكنه يترك بريطانيا في الوقت نفسه مقسّمة إلى اقتصاد خدمات مالية واقتصاد سياحة، مما يتعذر معه تحقيق ازدهار عام.

ولكن اسمحوا لي أن أختم هذا المقال بنبرة أكثر إيجابية وتفاؤلاً. فربما لا يعكس هذا سوى الطريق الذي سلكناه فقط، لأن الأماكن التي أتيحت لنا فيها فرصة رؤية مشاريع تطويرية جديدة بالمملكة المتحدة كانت في كثير من الأحيان أجمل بكثير من نظيرتها الأميركية.

ويمكن القول إن المملكة المتحدة تمتلك في غوف، الذي يُعد أحد أنصار التنمية «الجميلة والشعبية»، وفي الملك تشارلز الثالث، الذي بنى بلدات تجريبية ذات أشكال تقليدية، بعضَ القادة الذين يفهمون سبباً مشروعاً لخوف الناس من الأبنية الجديدة – ألا وهو الكآبة والرتابة اللتان تميّزان الكثير من العمارة المعاصرة، سواء كانت تمدداً لمشاريع تطويرية في الضواحي أو أشياء قبيحة من تصميم «مهندسين نجوم».

وخلاصة القول إن بريطانيا نجت من بعض هذا القبح بفضل تحمسها للمحافظة. وعليه، فإن السيناريو المثالي هو أن تعود المملكة المتحدة مرة أخرى إلى النمو والأمل الشاب، مع بقائها حارسا للجمال، وبالتالي يجب ألا تعني تلك الدينامية نهاية «الجمعيات وجوقات الكنائس»، وإنما مزيداً من المباني الأخرى التي تطرقت إليها أبيات فيليب لاركين.

*كاتب أميركي

ينشر بترتيب خاص مع خدمة«نيويورك تايمز»