كافحت هاييتي على مدار عقود لتجنب الانزلاق إلى ظروف شديدة الصعوبة. ولطالما عانت من ضعف القيادة والاستبداد والكوارث الطبيعية مثل الأعاصير والزلازل التي غالباً ما يتبعها تفشي الأمراض. والدولة التي يزيد عدد سكانها على 11 مليون نسمة وصلت اليوم إلى الحضيض فيما يبدو. وبعد اغتيال الرئيس عام 2021، ضعفت قدرة النظام المدني بشدة.

ولا يستطيع البرلمان الضعيف أن يضاهي قوة العصابات الكبيرة المدججة بالسلاح في البلاد. وارتفعت معدلات الخطف والاغتصاب والقتل وتجارة المخدرات، وتضاعفت معدلات الجريمة خلال عام واحد. وتعد العاصمة بورت أو برنس من بين أخطر المدن في الأميركتيْن.

ومن المؤسف أن كل هذا يحدث في أمة تُعد ثاني أقدم جمهورية حرة في نصف الغربي من الكرة الأرضية، بعد أن نالت استقلالها عن فرنسا عام 1804. ومع استمرار تدهور الوضع الأمني، يدعو كثيرون من المراقبين الدوليين إلى تأليف بعثة جديدة للأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار والأمن على غرار تلك التي كانت قائمة في الفترة من 2004 إلى 2017.

فهل حان الوقت لإعادة أصحاب الخوذ الزرقاء إلى هاييتي؟ أنا أعرف هاييتي جيداً. كقائد للقيادة الجنوبية للولايات المتحدة بين عامي 2006 و2009، زرتها مرات ودرست تاريخ وثقافة ولغة البلاد التي تعد الأكثر فقراً في الأميركتْين. ويعيش نحو 60 بالمئة منهم في فقر مدقع، بما في ذلك أربعة ملايين طفل. وأنا أتحدث الفرنسية، وتعلمت القليل من اللغة الرسمية، الكريولية.

وأخبرني الهايتيون آنذاك أنهم يشعرون بالامتنان لمساعدتنا ومشاركتنا، أو على الأقل كانوا كذلك في البداية. وفي زياراتي الكثيرة، قضيت وقتاً طويلاً مع قادة بعثات الأمم المتحدة. وكانت هذه القوة، المعروفة باسم بعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في هاييتي، تتألف من نحو خمسة آلاف جندي من قوات الأمم المتحدة، نصفهم من العسكريين ونصفهم من الشرطة.

وكان العنصر العسكري الغالب من البرازيليين، والقائد العام كان جنرالا بثلاث نجمات من الجيش البرازيلي. وكانت تشيلي أيضاً مساهماً رئيسياً، وكذلك الأرجنتين ودول كثيرة من أميركا الجنوبية الأخرى. كما قدم جنود من بنجلادش ونيبال وسريلانكا وحدات كبيرة.

كما شارك عدد من ضباط الشرطة من الهند وباكستان. وفي المجمل، شاركت أكثر من 50 دولة، تقريباً عدد الدول التي أرسلت قوات إلى أفغانستان. ومن الجدير بالملاحظة أن الولايات المتحدة التي كانت بالطبع ملتزمة بشدة في أفغانستان والعراق طوال فترة الانتداب، لم تساهم بقوات كبيرة. وفي الجانب الإيجابي، حققت قوات الأمم المتحدة قدراً يسيراً من الاستقرار في المجتمع الهاييتي، مما أدى إلى الحد من العنف وزيادة القدرة على الوصول إلى الغذاء والمدارس.

لكن من المؤسف أن المهمة اكتسبت سمعة ليست نظيفة تماماً في هاييتي. وكان أحد الأسباب الحاسمة لذلك هو التفشي الكبير لمرض الكوليرا الذي أودى بحياة عشرات الآلاف من الهاييتيين ويرجع سببه إلى شبكات المياه التي تم تركيبها لدعم قوات الأمم المتحدة. كما وردت تقارير كثيرة عن أعمال إجرامية ارتكبتها قوات الأمم المتحدة، بما في ذلك المداهمات والاغتصاب والاختطاف والاحتجاز غير القانوني والإعدام خارج نطاق القضاء. وأتذكر الجنرال البرازيلي كارلوس دوس سانتوس كروز وهو يخبرني عن مدى صعوبة العمل مع دول كثيرة في بعثة الأمم المتحدة، وأن الفقر المدقع في المجتمع الهاييتي جعل من الصعب خلق استقرار طويل الأمد.

ولاحقاً، حين توليت قيادة بعثة الأمم المتحدة في أفغانستان، فهمت بشكل أفضل التحديات التي واجهها خلال تلك السنوات. إنها مهمات كبيرة ومعقدة يتم إجراؤها تحت ضغط شديد. لكن السماح لهاييتي بالاستمرار في الانزلاق إلى الفوضى التي تديرها العصابات ليس حلاً مقبولاً. وهاييتي لا تمتلك حالياً القدرة على التغلب على التحديات التي تواجهها دون تدخل خارجي.

ومن الضروري فيما يبدو إنشاء بعثة جديدة للأمم المتحدة تستفيد من الدروس السابقة من تجربة بعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في هاييتي. ومن الواضح أن هذا يجب أن يتم بإذن من الحكومة الحالية، وأفضل نهج هو تشكيل القوة قدر الإمكان من الأميركتين. ومن خلال الشراكة مع منظمة الدول الأميركية، تستطيع الأمم المتحدة توفير القيادة والسيطرة الإقليمية كما فعلت في بعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في هاييتي.

وهذه المرة، وبما أن متطلبات مهمات أفغانستان والعراق انتهت، فمشاركة الولايات المتحدة بل وقيادتها للمهمة الأممية في هاييتي أصبحت إلزامية. ويجب أن نتذكر اللاجئين الهاييتيين الذين جاءوا إلى الولايات المتحدة في الثمانينيات على متن قوارب، والذين بلغ عددهم في نهاية المطاف أكثر من مائة ألف.

والولايات المتحدة لديها مصلحة قوية في استقرار هاييتي مع قدر معقول من الأمن الداخلي والقدرة على تحقيق التنمية الاقتصادية. ويجب أن يبلغ عدد جنود البعثة الجديدة نحو خمسة آلاف فرد، مقسمين بين الجيش وقوات إنفاذ القانون. وسيتعين بناء مقرهم الرئيسي ومراكزهم المؤقتة وصيانتها بدقة لتجنب أي تلميح لتكرار تجربة الكوليرا.

ولابد من دمج الدروس المستفادة من المهمة الأولى في مخططها، فضلاً عما تعلمه المجتمع الدولي في وقت لاحق في أفغانستان، حيث توفر فرق إعادة الإعمار الإقليمية بعض الأفكار الجديرة بالدراسة.

وإذا تمكنت الولايات المتحدة من قيادة بعثة أفضل للأمم المتحدة، هذه المرة بالاستعانة بأفراد أميركيين، سيكون من مصلحتنا أن نساعد هاييتي على الوقوف على قدميها من جديد.

*القائد السابق لقوات حلف شمال الأطلسي، والعميد الفخري لكلية فليتشر للقانون والدبلوماسية في جامعة تافتس.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنج آند سينديكيشن»