في الاحتفاء بذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، قال صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، في تغريدة على منصة «إكس»: «(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ). في ذكرى مولد نبينا الأكرم، أدعو الله تعالى أن ينعم على عالمنا بالأمن والطمأنينة والاستقرار، وأن تفيض الرحمة التي جاء بها، صلى الله عليه وسلم، سلاماً ومحبة وتسامحاً على البشرية جمعاء».  

  منذ أربع سنواتٍ ما أزال مع كثيرين من المختصين منشغلاً بكتاب المستشرق الأميركي خوان كول، «محمد نبي السلام وسط صراع الإمبراطوريات»، إذ لفتت انتباهَه، كما قال، الآياتُ الأولى في سورة الروم التي أُنزلت مبكراً: «غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ». إذ عنى ذلك له أنّ رسالة السلام كانت بين أصول دعوة النبي ورسالته منذ البداية.

فقد ظلت الحرب دائرةً بين الإمبراطوريتين البيزنطية والساسانية منذ عام 604 حتى عام 629، وقد دمَّرت تلك الحرب الطويلةُ بلادَ الشام والعراق، وأضرّت ضرراً كبيراً بتجارة الجزيرة وبشرها. ولذا يرى خوان كول، وقد تتبَّع القرآنَ كلَّه بدقة، أنّ السلام الديني والإنساني كان في أساس رسالة النبي صلى الله عليه وسلم الذي اعتبره القرآن الكريم رسول رحمة.. والرحمة والتراحم بهما بقاء الإنسان واستقرار الإنسانية.  

  لا يرى القرآن مسوِّغاً للنزاعات غير سببين: الاضطهاد الديني، والإخراج من الديار واحتلالها. وفيما عدا ذلك فالعلاقات بين البشر تقوم على التعارف والبر والقسط: «لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ».

ولذا يعتبر خوان كول أن جهد النبي صلى الله عليه وسلم بالداخل انصبّ على حماية المدينة من الغزوات، وعلى تمكين المسلمين من زيارة مكة وإقامة شعائر الحج. أما تجاه الشام في سنوات حياته الأخيرة فقد كانت التعرضات العسكرية لمنع دخول حرب الإمبراطوريتين إلى داخل الجزيرة، بسبب تحيز بعض القبائل العربية الحدودية لهذا الطرف أو ذاك في الحرب الدائرة.

وهناك هدفٌ آخر وهو إقناع عرب الحدود أنه لا داعي لأن يبقوا تابعين لهذا الطرف أو ذاك، وأنه صارت لهم دولتهم التي تستطيع حمياتَهم وتأمين مصالحهم. ولذا عقد المسلمون عقودَ صلحٍ مع عددٍ من زعماء القرى والبلدات، وأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في العام السادس للهجرة (628-629) رسائل سلامٍ واعترافٍ وتعاون أيضاً، وفي مرحلة لاحقة كتب إلى ملوك فارس والروم.

وفي عام الوفود (العام التاسع للهجرة) استقبل الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة عربَ الداخل والحدود، مسلمين ومسيحيين، وسمع خياراتهم وبناءً عليها اختار لهم مِن أنفُسهم وُلاةً وعُرفاءَ وأرسلَ معهم مَن يعلّمهم الدِّينَ، وكتب للمسيحيين منهم كُتبَ أمانٍ وحرية لدينهم ولمعابدهم وحرية حركةٍ لجماعاتهم ومجتمعهم.     لماذا تمكّن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك كله في زمنٍ قصيرٍ بالمدينة لا يتجاوز السنوات العشر؟

يستنتج خوان كول أنّ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تمكن من مدّ آفاق سياسات السلام لأنه أقام كياناً مستقراً بالمدينة، كما تدل على ذلك صحيفة المدينة أو عهدها عام 623. النظام تعاقدي بين المقيمين على اختلاف قبائلهم وأديانهم، وعلى أساس المساواة والعدالة والتراحم، بحيث اعتبر كثيرٌ من الباحثين المحدَثين أنّ النظام هو نظام مواطنة كامل.

واستناداً إلى هذا النظام القوي والمستقر بالوحدة والرضا بين عناصره، اتجه رسول الله لدعوة الآخرين إلى التعاون على وقف النزاعات، وقد صار النموذج جذاباً ويحتضن إمكانيات السلام الديني والاجتماعي والإنساني.     مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيرٌ برحمةٍ وتراحم بين البشر وسلامٍ للإنسانية.

*أستاذ الدراسات الإسلامية -جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية