ظلت القضية الفلسطينية معلقةً في فضاء اللامتوقع على مدى سبعة عقود، وظلت حلولها تحوم حول مقولة ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وإسرائيل قد قامت بالقوة وبتحدي القرارات الدولية، والعرب الثوريون قاموا بحقهم في التحدي وشعار الثورية، إلا أن الذي ظل يتكرر هو هزيمة القوة، ولم تنفع القوة أحداً في هذا النزاع، فإسرائيل نفسها قد تورطت سيكولوجياً وذهنياً بمقولة القوة واعتنقت عقيدة القوة، وأنها ستظل آمنة ومستقرة ما دامت هي القوة الأعلى والوحيدة في المنطقة، وولد هذا لديها شعوراً بالاكتفاء الذاتي والتحصن بتفردها، وزادت على ذلك بدعوى الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، ومن ثم هي وحدها القوية وما عداها ضعفاء وغير عصريين، لكن إسرائيل هُزمت في معناها الديمقراطي حين فضحها أطفال الحجارة في انتفاضة عام 1987، وهي الانتفاضة التي كشفت الوجه غير الإنساني لإسرائيل وغير الحقوقي من حيث مواجهتها للانتفاضة بقوة متوحشة ضد أطفال عُزل وغير مسلحين وكانوا يمارسون حقاً إنسانياً في رفض الاحتلال غير القانوني أصلاً ، كما هُزمت قوتها عام 1973 حين تم تحطيم خط بارليف، ثم أخيراً هُزمت قوتها في السابع من أكتوبر 2023، وهذا يعني أن القوة مهما عظُمت فهي ليست حصانةً ولا هي حمايةٌ، وأن الذكاء الاصطناعي مثله مثل القوة الاصطناعية قابلان معاً للانكسار، وانكسارهما كارثي.

هذه خلاصة صراع القوة في هذه القضية، وهي قوة تضمر «التدمير» مما يعرِّي معنى القوة الإسرائيلية وكونها قوة ليست للدفاع عن النفس ولا لدرء العدوان وإنما قوة تدميرية وليست دفاعية، بل تعتمد سحق الوجود البشري والمعنوي مما يفضي إلى انعكاسات سلبية حيث يتكشف دوماً أن إسرائيل تدمر نفسَها كلَّما أمعنت في تدمير خصمها، ومثل ذلك حدث لنظريات الشعارات الثورية العربية التي ظلت تدمر نفسَها بشعاراتها. وتقابل ذلك كله خلاصةٌ أخرى كانت وليدة التفكير غير الثوري وغير التدميري، وهي التفكير الذي صمم المبادرة التي أصبحت عربيةً بالمطلق حول «حل الدولتين» بصيغة منصفة للطرفين معاً، وظل هذا الحل معلَّقاً في فضاء التبصر، لكنه عجز عن التحقق، لأن شعار القوة ظل يعاند هذا الحل. والعناد ليس من إسرائيل فقط، بل أيضاً من قوى ترى أن الحل لا يكون إلا بالقوة، أي أنها نظرية مشتركة بين قطب إسرائيلي وقطب آخر متحالف من عدة قوى في المنطقة. واليوم تأتي غزة لتكون علامةَ تحول كبرى إن نحن ساعدنا هذا التحول كي يتحقق به شرط السلام والأمان للأطراف كلها.

وإن كنا نرى أن أشد المقاومين لحل الدولتين هي إسرائيل (مع وجود أطراف أخرى متعنتةً وإن بقدرِ أقل)، والذي يلزمنا قوله أننا أيضاً أمام وعي سياسي عقلاني تقوده دول الخليج لطبخ حل ينهي القضيةَ بعدالة، وهو حل شرطه العقلانية في حين فيروسه الشعاراتية، وما بين العقلانية والفيروس الشعاراتي ستكون غزة هي التحول الذي سيفتح بوابات الحلول، فلا إسرائيل قادرةٌ على الاعتماد المطلق على قوتها التدميرية، وقد انهارت قوتها مراراً وسيظل الانهيار يتكرر مرة تلو أخرى، ولا الشعاراتية قادرة على حل المشكل وهذا أمر مقطوع به بما أنه اختبر على مدى سبعة عقود ولم يفلح.

إذن هي لحظة لانتصار العقلانية شرط أن تتولى العقلانية إدارة الأزمة، ولن يحدث هذا إلا إن تحقق أمران، أولهما أن تفهم إسرائيلُ الدرسَ، والثاني أن يفهم ممثلو الشعاراتية الدرسَ كذلك.

فإن تحقق هذا فستنتصر غزة من حيث إنها قد صنعت الدرسَ عبر دماء أطفالها وليس عبر شعارات لم تعد تعني شيئاً لأحد ولا عبر القوة الإسرائيلية التي هُزمت ثلاث مرات وآن الأوان لها أن تتعلم. أخيراً، أقول لقد استبعدت كلمة «التطبيع» لأنها كلمة موشومة وتستخدم لتتلبس معنى الشعاراتية بصيغة مقلوبة، وهي توظف فقط لإفساد أي حوار حول الحل، وأرى أن نلتزم بمصطلح «حل الدولتين» الذي هو حل عقلاني وعادل ومحصن من الإيحاءات السلبية، ويمثل واجهة الخطاب الجديد لمعنى سياسي عربي يتشكل بقوة ويعتمد روح التفاوضية مع القوى الفاعلة عالمياً ويقدم الخطاب العربي للعالم بالمنطق والحجة والتخطيط العميق والواعي، وهو خطاب يجب منحه حق التمثيل العربي الذي لا يجعل القضية تحت قوانين المزايدة والسلبية. وأساسه نظرية «الشرق الأوسط الأخضر» بالمعنى البيئي والمعنوي. وسيكون حل القضية الفلسطينية أساساً لتحقيق منطقة سليمة في معناها ومبناها، إذ لا سلام ولا أمان لو سادت قوة ترى نفسها الأقوى بالمطلق وتعطي نفسَها حقَّ التحكم بشعب كامل تمنع عليه حقه في دولة تخصه ويعيش فيها بأمان.

وإن تحقق «حل الدولتين» فسيتحقق التوازن الإيجابي بمعناه العادل والصحيح بعيداً عن الشعاراتية والتقوي معاً، وهما العلتان اللتان عطلتا كلَّ أفكار الحلول. وليس لأحد أن يعيش آمناً وبسلام دون أن يكون جواره أيضاً آمناً وبسلام مماثل، وهذا شرط للوجود الطبيعي. ودون ذلك ستظل الحروب تتكرر تحت دعاوى إيهام الذات، كما هو حاصل على مدى سبعة عقود.

*كاتب ومفكر سعودي- أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض