التغريب مصطلح جاء مع الاستشراق لحمل الشعوب على الانصهار في مفاهيم الغرب وحضارته، وبالتالي ابتعاد تلك الشعوب وانفصالها عن التاريخ واللغة والثقافة والهوية الخاصة بها، وهو ما منعها عن إدراك ماهية تفرّدها الثقافي والتمسك به، دون أن يكون ذلك التفرّد والخصوصية بمثابة مفاهيم وممارسات إقصائية.

وقد ساهمت التطورات والاكتشافات والبرامج والتطبيقات والتقنيات الجديدة في وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي والإعلام وعالم الفنون والترفيه في عملية التغريب، وهو ما يمثل الخطر الأكبر على هويات المجتمعات.

وفي واقع الأمر، فإن الهوية لم تعد ذات أهمية وتأثير على الأجيال الناشئة في حرب خفية تخسرها شعوب العالم نحو هدف الهوية الرقمية، والتي حتماً ستساهم في محو أغلب مظاهر الهويات التقليدية والتي ستكون من ضمن الإرث الوطني للدول لا أكثر ولا أقل من ذلك، عطفاً على سرعة وحجم المتغيرات في عالم التكنولوجيا والاتصالات والتقدم العلمي المذهل في مجال الذكاء الاصطناعي وتقنيات وتوجهات أخرى أكثر إبهاراً منه.

لوقف زحف ما يمكن وصفه بـ «جيوش التغريب السلبي» المضاد لاستقلالية الشعوب الفكرية والقيمية والروحية، يجب في المراحل التعليمية قبل الجامعية أن تتاح ساعات قراءة حرة في المستوى المدرسي منذ الصغر من دون رقيب ومن دون اختبارات، ليعيد الإنسان اكتشاف نفسه وصولاً للحيرة والدهشة وليست بالضرورة الدهشة التي تقود للمعرفة، بل إن قمة الفلسفة أن يصل الإنسان لنقطة ستقود الإنسان إلى مزيد من الانبهار المؤقت بأنوار «الجهل»، وكلما ازدادت رغبة الإنسان لكسر قيود الغموض المحيطة به في عالمه المباشر، والعالم الأكبر الذي يتخيله ويصوّر له من خلال العلوم الإنسانية الحديثة، سيتخلص تباعاً من كونه غارقاً في المزيد من الشعور بالنقص وخيبة الأمل لعجز معرفته في احتواء حجم واتساع ومساحة غير المعروف وغير المدرك إدراكاً واعياً عن أمور عديدة، بعضها يجد له تفسيراً والبعض الآخر لا يجد له أي تفسير عقلي أو علمي يذكر، ولذلك أحياناً ما تكون نوعية ولغة التعليم أداة مهمة ينبغي تطويرها لمواجهة المتغيرات، وهنا تكمن إشكالية التغريب على العموم والتغريب الإلكتروني على وجه الخصوص.

يبدأ التغريب التقني بالتغريب في الوعي، فتُجبر الشعوب على تقبل مصطلحات مختارة لتحل محل المصطلحات المأخوذة من تراثها اللغوي والثقافي والديني والأعراف والتقاليد الاجتماعية، وهجمات تبدو كالأمواج الهائجة على كل محاولة رفض للاستلاب الثقافي والقيمي والمبادئي مع الثقافات المسيطرة، والمالكة لأدوات إحداث ذلك التغيير في أنماط السلوكيات والتفكير البشري.

والدعوة الكبرى اليوم في العالم هي تبني التقنيات المتقدمة ورفع جاهزية الدول للاندماج مع التقنيات الرائدة، والحديث عن الأتمتة والرقمنة لسد حاجة العالم للشواغر التقنية، ولكن هل هناك أجندات غير معلنة خلف ذلك؟ هذه من ضمن الأسئلة التي يطرحها المختصون بالأمن الفكري والإنساني للدول، وهو ما يرجعنا للتكوين الفكري للشخص قبل أن يدخل الجامعة ويتخصص!

والمثير للجدل أن بعض الحكومات تصرف المليارات على تطوير قدراتها للدفاع عن سيادتها وتأمين كيانها ومكتسباتها المادية، في حين أن العدو الفعلي لا يحاربهم حرباً تقليدية ولا يستخدم سلاحاً ولا يمكن التصدي له بقدرة الجيوش وعظم إمكانياتها، دون الالتفات للهزيمة التي تحدث في الداخل لشعوبها وهي معركة خاسرة قبل أن تبدأ.

وفي بعض الأحيان من يتحدثون عن الحروب غير المرئية والهزيمة التي لا تُسال فيها الدماء يُعتبرون غارقين في الهرطقة، ويغرّدون خارج السرب، وهؤلاء هم من تمنع أصواتهم ومنطقهم من أن يكون خط الدفاع الأول في مواجهة الأزمات والتهديدات غير الملموسة، وبالتالي فسح المجال لدعاة التغريب من دول ومؤسسات إلى قلب الموازين على نحو يقرّبها من الموازين الغربية كتوجه عام يتحكم في النظام العالمي.

*كاتب وباحث إماراتي متخصص في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات.