عقدت بمنطقة «بلتشلي بارك»، بالقرب من العاصمة البريطانية لندن، القمة العالمية للذكاء الاصطناعي، وقد شارك فيها قادة ورؤساء شركات متخصصة، كأيلون ماسك رئيس شركة «تسلا» الرائدة في صناعة السيارات الكهربائية ومالك منصة «X» للتواصل الاجتماعي، حيث ذكر قائلاً: «إنه بفضل الذكاء الاصطناعي، لن يحتاج العالم إلى الوظائف مستقبلاً»، مما أثار العديدَ من المخاوف، خصوصاً وأنه صدر عن شخصية عالمية مبدعة في هذا المجال، مما دفع إحدى المشاركات لسؤاله: إذن أين سيعمل الناس وكيف سيتدبرون وسائل معيشتهم؟ إلا أن جواب ماكس كان مقتضباً وغير واضح تماماً.
وبدورها، أشارت الأمم المتحدة في تقرير سابق إلى أن الذكاء الاصطناعي لن يقضي على كل الوظائف، وإنما سيكون هناك انتقال من الأشكال الحالية إلى أشكال أرقى وأكثر تطوراً من الوظائف التي ستتطلب مؤهلاتٍ مهنيةً عالية للتعامل مع المستجدات التكنولوجية.
وجهتا نظر متخصصتان وجديرتان بالاهتمام، لكن الأكيد أن الذكاء الاصطناعي سيؤدي إلى تغيرات كبيرة وخطيرة في حياة البشرية لا بد من الاستعداد لها وأخذها بعين الاعتبار، حيث حذّر بعض القادة والمتخصصين، خلال القمة العالمية المذكورة، وبمن فيهم ماسك، من أن التطور السريع للذكاء الاصطناعي يشكل تهديداً وجودياً إذا لم تتم السيطرة عليه، بما فيه الضرر الاجتماعي والمعلومات المضللة، مما دفع بعض الحكومات والشركات لاتخاذ إجراءات وضمانات تنظيمية لتجنب فقدان السيطرة عليه. وفي المقابل، فإن الذكاء الاصطناعي، وكما قال وزير الاقتصاد الألماني، «يوفر فرصاً ستسهِّل كثيراً من حياة البشر وستجعل الأمور أكثرَ فعاليةً وقابلية للمعالجة في الكثير من القضايا والمجالات، كمواجهة التغير المناخي والتعامل مع الأمراض».
ويتضح من مداولات القمة بأن البشرية تقف على أعتاب مرحلة جديدة وخطيرة من التقدم العلمي والتكنولوجي تتطلب تعاونَ كافةَ الدول وتنسيق جهودها لتجنب النتائج الكارثية التي قد تتمخض عن هذا التحول السريع، ووضع الضوابط التي تتيح استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لخدمة البشرية وإسعادها وتحسين مستوياتها المعيشية، من خلال توفير احتياجاتها الأساسية بصورة أكثر فعالية وسهولة، مما حدا بأكثر من 25 دولة، بما في ذلك الولايات المتحدة والصين والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، لتوقيع إعلان «بلتشلي» الداعي للعمل بصورة جماعية ووضع سياسات مشتركة لتجنب الأضرار وتحقيق الاستفادات المرجوة، وهو التزام مهم إذا ما تم تطبيقه والعمل به، بعيداً عن الصراعات ومراكز النفوذ.
وعودةً إلى التساؤل الأهم، والذي ربما يعني معظم الناس، وهو ذلك الخاص بالوظائف، فإنه يمكن طرح وجهة نظر تعتمد على سير التقدم التكنولوجي السريع الذي تحقق على مدى مائتي عام الماضية وأدى إلى اندثار مهن وبروز مهن جديدة أتقنها الإنسان بنفس السرعة وتمكن من التعامل معها، حيث لعب التعليم دوراً أساسيا في ذلك. وهو ما يتطلب من كافة الدول، بما فيها العربية والخليجية، زيادةَ الاهتمام بالتعليم وتخصيص المزيد من الموارد لتطويره ووضعه تحت إشراف قيادات مهنية عالية الكفاءة، بعيداً عن المداراة والمحسوبية، إذ أن ذلك، كما يتضح، يتعلق بمصير الدول، وبأن تكون أو لا تَكون، ضمن موكب الذكاء الاصطناعي والتقدم العلمي الذي يسير بسرعة لم تشهدها الإنسانية من قبل، مما سيتيح المساهمة في هذا التقدم ويسهل عملية إحلال الوظائف، إذ يلاحظ ضعف الحضور العربي في قمة «بلتشلي».
وبالاستناد إلى التجارب التاريخية، فإنه يمكن الخروج بنتيجة مفادها أن الوظائف لن تختفي، وإنما قد تتقلص من خلال عملية إحلال تتطلب أيدي عاملة أقل عدداً وأكثر مهارة، إلى جانب إحلال الروبوت في العديد من الأعمال التي يقوم بها الإنسان حالياً، إذ يمكن زيادة فعالية الجهود في هذا المجال، بما في ذلك الاستفادة من تجارب الدول والمؤسسات المتخصصة، حيث يمكن تنشيط الحضور العربي في القمة العالمية القادمة بباريس، العام المقبل، وكذلك بالقمة الافتراضية بعد ستة أشهر والتي دعت لها كوريا الجنوبية.
 
*خبير ومستشار اقتصادي