من أهم النتائج التي خرجنا بها من ملتقى أبوظبي الاستراتيجي العاشر الذي نظمه مؤخراً «مركز الإمارات للسياسات» ضرورة الخروج من التصنيفات والتواضعات السائدة في الفكر الاستراتيجي السائد حول طبيعة النظام الدولي واتجاهاته. وذلك ما أوضحه معالي الدكتور أنور محمد قرقاش المستشار الدبلوماسي لصاحب السمو رئيس الدولة في كلمته الافتتاحية الهامة، وبيَّنته رئيسة المركز الدكتورة ابتسام الكتبي في خطابها التمهيدي الرصين وتقريرها الختامي في نهاية الملتقى.وعلى عادته الحميدة، فقد استضاف المركز لمعالجة قضايا المنطقة والعالَم خبراء ومسؤولين من مختلف مناطق العالم، من روسيا والصين والهند وأفريقيا والعالم العربي الإسلامي، مع مشاركة وحضور شخصيات وازنة من الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا.

لقد بدا واضحاً من مناقشات الملتقى أن النظام الدولي لم يعد يخضع لإدارة أحادية أو هيمنة مركزية، بل إن الأزمات الحالية التي يعرفها العالم بحدّة، مثل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة والحرب الروسية الأوكرانية المستمرة منذ سنتين.. تظهِر جلياً ما حذَّر منه أحد المشاركين من تفاقم التصدع بين الغرب وبقية العالم. إحدى الشخصيات الأوروبية البارزة التي حضرت اللقاءَ قالت بوضوح: «لقد أدركنا أننا في عزلة حقيقية داخل العالَم، رغم كوننا ندعي أن نموذجنا الحضاري والسياسي كوني شامل، يَصلح لكل البشرية ولا محيد عنه في التحديث والتنمية والتطور». ما كشفت عنه أحداث أوكرانيا هو أن الغرب وقف وحيداً في حربه ضد روسيا، في حين نأت بقية بلدان العالم عن صراع لا ترى نفسَها معنيةً به. قلتُ للصديق الأوروبي: «لقد توهمتم أن نهايةَ الحرب الباردة تعني السلام العالمي الشامل ونهاية كل ضروب النزاعات المسلحة، فلم تهتموا بعشرات الحروب والصراعات العنيفة التي مزقت أنحاء كثيرة من المعمورة وكنتم في أحيان كثيرة مسؤولين عنها.

وعندما عادت فظائعُ الحرب إلى قلب أوروبا أردتم أن يقف العالم معكم في حين أنكم أهملتموه من قبل». وعندما سُئل وزير خارجية دولة غربية كبرى عن الحالة الاستعمارية في فلسطين وانتهاك حقوق الشعب الفلسطيني على يد سلطات الاحتلال الإسرائيلية، مقابل الوضع ذاته في أوكرانيا، أجاب الإجابة المألوفة: «الوضع مختلف». أحد الخبراء الصينيين البارزين توقف عند ظاهرة ازدواجية المعايير في المواقف الغربية، قائلاً: «لقد نجح الغرب في تحويل قيّمه إلى معايير كونية تقوم عليها الشرعية الدولية، لكنه لا يأبه لانتهاكها وفق مصالحه، في حين يحولها إلى أداة للتدخل في شؤون الآخرين وإخضاعهم لهيمنته».

قبل سنوات، لم تكن هذه النغمة الاحتجاجية مرتفعة، كانت روسيا تطمح إلى استعادة موقع الدولة السوفييتية السابقة في النظام الدولي، وكان هدف الصين الاستفادة من الفرص التي توفرها حركية العولمة الاقتصادية، أما دول الجنوب الصاعدة فلم تكن تريد أكثر من الاعتراف بها كقوى إقليمية في مجالاتها الحيوية. إنما نشهده اليوم هو ما أطلق عليه الباحثان ديديه بليون وكريستوف فانتورا «نزع التغرب عن العالم» (عنوان كتاب جديد مشترك بينهما)، ويعنيان بهذه العبارة تلك الحركيةَ المتناميةَ على أصعد مختلفة للخروج من الهيمنة الغربية على العالم بعد أن سادت قروناً أربعةً كاملةً.

الموضوع هنا لا يتعلق بالريادة الاستراتيجية للولايات المتحدة الأميركية في النظام الدولي، إذ غنيٌّ عن البيان أن هذا البلد الغربي الكبير لا يزال هو القوة العالمية الأكبر، ولا منافس له حالياً على خارطة العلاقات الدولية ولا في مجالات التطور الصناعي والتفوق التقني والاقتصادي. بيد أن الجديد بالفعل هو أن الكثير من الأمم والبلدان أصبحت على قناعة راسخة بضرورة البحث عن بدائل للتنمية والتحديث والفاعلية الاستراتيجية خارج أطر وسياقات التحكم الغربي.

لقد بدأت هذه الحركية من داخل المجتمعات الغربية نفسها، والتي أصبحت تطرح - نتيجة لديناميكية الهجرات المتسارعة والتنوع الثقافي المتزايد - أسئلةً جوهرية حول سردية الكونية الإنسانية التي هي أساس النموذج الغربي. وهكذا ظهرت نزعة النقد الكولونيالي انطلاقاً من الجامعات الأميركية في تفاعل غني مع الأدبيات الفلسفية والاجتماعية الجنوبية، مشككةً في الحياد الابستمولوجي والقيمي لنماذج التحديث الغربية المصدَّرة إلى بقية العالم.

وقد انتقلت هذه الحركية الاحتجاجية من نطاق العلوم الإنسانية إلى الخطاب السياسي للنخب الجديدة الحاكمة في أميركا اللاتينية وأفريقيا، ووجدت صدى قوياً لها في التوجهات الأوروآسيوية الروسية والصينية الراهنة. في ملتقى أبوظبي استمعنا إلى الأصوات الصاعدة في العالم الجديد، فكان الملتقى الذي تحول إلى أهم منتدى استراتيجي عربي مرصداً أميناً وموضوعياً للحراك الجيوسياسي العالمي في فترة حاسمة وخطيرة من تطور الأوضاع الدولية.

*أكاديمي موريتاني