بعد وقت قصير من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، حزم أوليكسي مارتينينكو حقائبه وهرب من كريمنشوك، وهي مدينة كانت تنعم بالهدوء والسكينة قبل أن تمزّقها الحرب وتبعد بنحو 190 ميلا عن كييف. توجه مارتينينكو إلى ستوكهولم حيث عمل طباخا. وبعد عام على ذلك، ومع اقتراب تاريخ انتهاء صلاحية تأشيرة عمله، انتقل للعيش في تورونتو أكبر مدينة في كندا. التغيير الكبير في المشاهد شكّل تحديا حقيقيا للمهاجر الأوكراني.

واحتاج مارتينينكو لحوالي شهرين قبل أن يفلح في العثور على وظيفة مماثلة في وسط مدينة تورونتو الصاخب، الذي يبعد بحوالي ساعة على متن وسائل النقل العامة عن شقته الواقعة في ضواحي المدينة. ولأن الأجر الذي كان يتقاضاه لم يكن يكفيه لتسديد فواتيره، فإنه سرعان ما اضطر للبحث عن وظيفة ثانية، كطباخ أيضا، وهو يعمل الآن سبعة أيام في الأسبوع في مطبخين سريعي الإيقاع.

العمل الشاق وارتفاع تكاليف المعيشة تركا تأثيرهما عليه. ولذلك، يخطّط مارتينينكو (44 عاما) الآن للعودة إلى السويد. وتشمل نفقاته الشهرية في تورونتو قرابة 100 دولار كندي لباقته الهاتفية (267 درهما)، و150 دولارا كنديا للنقل العام، و400 دولار كندي للبقالة، وألف دولار كندي لغرفة في منزل يتقاسم مطبخه وحمامه مع ثلاثة مستأجرين آخرين.

وحين يتبقى له بعض المال، يرسله إلى عائلته التي ما زالت في أوكرانيا. ويقول إنه حين كان في ستوكهولم كان على الأقل يحصل على ما يكفي من المال للتوفير. وقال مارتينينكو في مقابلة معه: «لقد صرتُ متعباً طوال الوقت الآن»، مضيفاً «أريد العودة إلى أوروبا لأن الحياة صعبة جدا في كندا».

والواقع أنه لطالما كانت كندا وجهة مفضلة للوافدين الجدد الذين يبحثون عن حياة أفضل في دولة مزدهرة. ويشكّل المهاجرون قرابة ربع سكان كندا، ومنذ بداية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، استقبلت البلاد حوالي 200 ألف أوكراني. غير أن مشقة الحياة اليومية في المدن الأكثر ازدحاماً في كندا -- ليس تورونتو فقط ولكن أيضا فانكوفر ومونتريال وكالغاري -- إلى جانب التكاليف المرتفعة تجعل من تلبية متطلبات الحياة أمرا صعبا على نحو متزايد.

وقد حذّرت بعض منظمات الخدمة الاجتماعية من أن المواطنين الأكثر هشاشة في البلاد – ومعظمهم من القادمين الجدد -- هم الأكثر تأثرا بارتفاع الأسعار، وخاصة في مجال الإسكان. وقال أندريه زافيالوف، وهو موظف في فرع الخدمات الاجتماعية الأوكرانية- الكندية في تورونتو، إنه يعرف 15 أوكرانيا على الأقل عادوا إلى البلاد من منطقة تورنتو الكبرى منذ اندلاع الحرب.

وأوضح أنه لا يوجد سبب رئيسي للمغادرة، ولكن النفقات واحدة من أكثر الأسباب التي يشير إليها الأوكرانيون المغادرون. وقال زافيالوف: «إن المرء يصبح غير قادر على العثور على المال، لكنه في حاجة لدفع ثمن الإيجار والبقالة المرتفع جدا»، مضيفا «هذه النفقات تؤذي جيب المهاجر بشكل كبير. ولمّا لا تكون هناك وظيفة أو مال، يعودون إلى أوكرانيا حيث كل شيء مألوف».

مثل هذه القصص يدعمها بحثٌ جديدٌ يشير إلى أن عدداً متزايداً من الوافدين الجدد اختاروا مغادرة كندا خلال السنوات الأخيرة، حيث أدى تدهور القدرة المادية على تحمّل أسعار السكن، ونظام الرعاية الصحية الذي يعاني من ضغط شديد، والتشغيل الناقص... إلى مشاعر استياء وخيبة أمل في الفرص التي تتيحها البلاد. لكن تسارع هذا الاتجاه من شأنه تقويض خطط رئيس الوزراء جاستن ترودو الطموحة لتلافي تراجع اقتصادي عبر تبني سياسات متساهلة في الهجرة. فعلى غرار العديد من البلدان المتقدمة، فإن معدل الولادات في كندا آخذ في الانخفاض، وعدد السكان سيتقلص من دون وافدين جدد. وعلاوة على ذلك، فإن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي ظل راكداً على مدى العقد الماضي بينما تجاوز ارتفاعُ أسعار المساكن الدخلَ الصافي بكثير.

الحل الذي توصلت إليه حكومة ترودو هو الهدف المتمثل في استقبال قرابة نصف مليون مقيم دائم جديد سنوياً، ليضاف إلى الطفرة الأخيرة في عدد الوافدين التي رفعت معدل النمو السكاني السنوي في كندا إلى 2.7٪ في 2022، وهي أسرع وتيرة بين الاقتصادات المتقدمة.

لكن التحدي الآن يتمثل في الاحتفاظ بهم. إذ يتعين على الوافدين الجدد التعاطي مع سلسلة من المشاكل، بدءا بتكاليف السكن. والحال أن المدن الكندية بما فيها الصغيرة تواجه نقصا في المعروض من الإيجارات لأن ارتفاع أسعار الفائدة أثنى المشترين المحتملين عن الشراء، مما أدى إلى احتدام المنافسة على الوحدات المعروضة للإيجار.

ونتيجة لذلك، وصل متوسط كلفة الإيجار في كندا إلى مستوى قياسي هو ألفين و149 دولار كندي في سبتمبر، بزيادة تفوق 11% مقارنة مع العام السابق، وفقا لشركة الأبحاث «أوربنيشن». وفي تورونتو، بلغ ألفين و614 دولاراً كندياً، وهو ما يناهز كامل الدخل قبل الضريبة لشخص يعمل بدوام كامل مقابل الحد الأدنى للأجور. ثم إن التكاليف الأخرى آخذة في الارتفاع أيضاً.

فإذا كان التضخم يتباطأ، فإنه ما زال عند 3.8%، وهو «مرتفع جدا عن المستوى المريح»، كما يقول لبنجامين ريتزيس، خبير أسعار الفائدة والاقتصاد الكلي في بنك مونتريال. كما ارتفعت أسعار البقالة ب5.8%سنويا في سبتمبر، بينما قفزت أسعار الغاز ب7.5%. والأكيد أن العديد من الوافدين الجدد يرغبون في البقاء في البلاد. وفي هذا الصدد، قال زافيالوف إن معظم الوافدين الجدد الأوكرانيين الذين تواصل معهم أعربوا عن إعجابهم الشديد بكندا – تنوع سكانها، ونظام الرعاية الصحية، وشبكة حماية اجتماعية متهالكة ولكنها ما زالت قوية.

غير أن القرار بشأن العودة إلى أوكرانيا أو البقاء في كندا يتأثر أيضا بعوامل تتعدى النفقات -- القرب من الحرب، أو الأمان، أو الشعور بالواجب الوطني. أولكسندر هاليك، 50 عاما، وصل إلى كندا بمعية ابنه البالغ 25 عاما في مارس الماضي، مباشرة من أوكرانيا. هاليك، الذي كان يعمل مهندساً في بلاده، حصل على وظيفة صانع خزائن في شمال تورنتو لأنه لم تكن لديه شهادة جامعية. وفي غضون ذلك، وجد ابنه وظيفة براتب أفضل في أحد المطارات.

وقال هاليك: «بالنسبة لابني، أعتقد أنه سيبقى لفترة طويلة وربما يبني مستقبله هنا»، مضيفا «أما بالنسبة لي، فإن الحياة في كندا أغلى بكثير مما هي عليه في أوكرانيا أو في أوروبا بكل صراحة. وهناك، لدي خبرة ويمكنني إيجاد عمل براتب جيد».

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنسينج آند سيندكيشن»