في ثقافتنا الإسلامية حديث نبوي، بغض النظر عن درجة الاحتجاج به، فهو ينبئ عن حقيقة إنسانية بليغة، تخدم واقعنا خدمة جليلة، وتُنبّه ناشئتنا إلى المتاح للبشرية جمعاء، الذي هو عمق هذا المشترك الإنساني الذي نحرصُ عليه. ورد هذا الحديث بثلاثة طرق: بطريق، «الكلمة الطيبة، ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحق بها»، وطريق، «الحكمة ضالة المؤمن، حيثما وجد المؤمن ضالّته، فليجمعها إليه»، وطريق، «كلمة الحكمة، ضالة المؤمن، حيث وجدها فهو أحق بها».
يفتح هذا القول أذهان المسلمين على حقيقة أساسية وهي أنّ كل ما يحمل في ذاته مزيد فهم واستبصار ويحرك إلى عمل خير، فهو مِلْكٌ للمؤمن، أضاعه فقط، ومن هنا فأين ما وجده، وكيفما وجده، وعند من وجده، فليجمعه في عقله أو في كتاب له، لأنّه، كلمةً كانت أو فعلاً، فهو صاحبه، وهو أحق به من غيره.
لا غرو، أنّ مثل هذا التّوجيه ليس غريباً عن المسلمين، وكتابُهم يُشيد بالحكمة، فالخيرُ الكثير في أن يؤتى الرجلُ الحكمةَ، ومقياسُ تفاوت النّاس الحكمةَ، وبها فُضّل لقمان، ولم يُبعث الرُّسل والأَنبياء إلا ليُعلِّموا قومهم الكتاب والحكمة، وقد ضرب رسولُنا الأكرمُ في ذلك أروع الأمثال، وسار على نهج أفاضل الحُكَماء ليُعلِّم البشرَ جميعَهم بالشّريعة الإنسانية، الحكمةَ الإنسانيةَ التي تخترق العصور.
عندما أدرك المسلمون الأوائل أن الحكمة ضالّتهم لم يَتَوَانَوْا عن الضَّرْب في الأرض يُعلّمون حكمتهم ويَتعلّمون حكمة غيرهم، ولم يَتوانَوْا عنِ الضّرب في الكتب، ترجمةً، وقراءةَ، وإذاعةً، ليتعلموا حكمة غيرهم، ويقتبسوا من شعلتهم العلمية قَبَساً يُضيئون به ما عَتَم من جوانب حضارتهم، فأضاؤوا بالعلم والفلسفة الأرضَ التي عمَرُوها، ولقَّحُوا بهما ثقافتهم الأصلية فأخرجوا منها قطائف وثمارا غذّت البشرية لقرون عديدة، قبل أن يتسلَّم المشعَلَ غيرُهم وينطلقون في بثّ الحكمة التي ضيَّعها المسلمون. 
لم يعدم المسلمون نماذج جسّدتْ البحث عن هذه الحكمةِ الضَّالّة، حتى إن بعض فقهائنا جعل كمال العلم بالإسلام المعرفةَ بدين المخالف، أليس في «شرع من قبلنا» حكمةٌ تم إقرارها؟ وهذا الغزالي، الذي رُزقَ شغف البحث عن الحقيقة وجرأةَ اقتحام العلوم، لا يتورّع عن القراءة في كل ما يقع له، ليكتشف ما في كتب الغير من حكمة ضالّةٍ. وهذا البيروني، بكتابه «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة»، نموذجٌ لهذه الحقيقة الضّالة في بلاد الإسلام، لا يتورَّع عن البحث عنها في كلام أهل الملل والنّحل المخالف له، ويُشيد بها إذا وجدها. وهذا ابن رشد لم يتورّع عن الإشادة الكبرى بأرسطو، والعكوفِ على كُتبه وكتب أفلاطون، يتأمَّلُها، ويشرحُ كتب «المعلم الأول» أكثر من شرح، فأنفق من حياته، شطراً كبيراً، مُنقّباً عن الحقيقة الضَّالة في كتب فلاسفة اليونان، لاعتقاده أنّ ما عندهم من حكمة قمينٌ أن يُقرّبَه من ربّه أكثر، كما صرّح في كتاب ما بعد الطبيعة.
إن تراث المسلمين هو تراث الفلسفة القرآنية الذي تقوم دعائمه على أساس من الحكمة متين، ولم يكن المسلمون يتورَّعون أبدًا عن الاعتراف بحكمة غيرهم، لأنَّهم كانوا على يقين أنّ هذه الحكمةَ هي حكمتُهُم التي أضاعوها، وعندما يلاقونها يَحضُنُونَها، من دون تردّد، بمحبَّة وامتنان. ولعل فرصة هذا التجمع العالمي في إكسبو 28 بدبي، بدولة الإمارات العربية المتحدة، مناسبة لمعانقة حكمة البُرُور بالأرض، وهي الحكمة الضّالة في كل اللغات والثقافات، وهي الحكمة التي تداعى لها النّاس من أصقاع الأرض، وهي الحكمة التي لا حكمة غيرها لإنقاذ كوكبنا من الدمار.
*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية