كان هنري كيسنجر أكثر قادة السياسة الخارجية الأميركية حكمةً، وأكثرهم غفلة! وأكثرهم بعد نظر وقصر نظر! وهو صاحب أعظم تركة، والقائد الذي يجب علينا دراسته أكثر من غيره من أجل معرفة ما لا يجب فعله. لم أكن أعرفُ كيسنجر إلا قليلاً، ولكنني أرى دروساً في إنجازاته وفي كوارثه على حد سواء. 
كان كيسنجر ألمعياً وكان يعلم ذلك. فقد كان يتمتع بقدرة على استشراف السيناريوهات المحتملة، ورؤية إمكانيات التغيير، ومن ثم العمل على تحقيقها. وقد ساهم إلمامه العميق بالتاريخ، ولا سيما بـ«اتفاق أوروبا»، الذي أشرف عليه الأمير مترنيخ في أوائل القرن التاسع عشر، في نجاحه في استراتيجيات توازن القوى.
كانت الصين في بداية إدارة نيكسون تعيش في عزلة وفوضى ولكن كيسنجر رأى فرصة ورعاها بطرق أدّت في النهاية إلى ما لم يكن من الممكن تصوّره: زيارة رئاسية، ثم تطبيع للعلاقات، فانفجار في التجارة. وشعرت روسيا بأن الركب فاتها فدعت الرئيسَ ريتشارد نيكسون لزيارة موسكو ووقّعت اتفاقية تاريخية للحدّ من الأسلحة. 
وعلى نحو مماثل، رأى كيسنجر أن حرب أكتوبر 1973 لم تخلق أزمة عسكرية فحسب بل أتاحت فرصة دبلوماسية أيضاً، فانخرط في دبلوماسية مكوكية مكثفة ساعدت في النهاية في إرساء أسس السلام بين مصر وإسرائيل الذي غيّر الشرق الأوسط.
غير أنه بالنسبة لشخص يتمتع بحنكة دبلوماسية كبيرة، كان كيسنجر غافلاً عن القومية، وكانت العديد من أسوأ أخطائه تتعلق بنظره إلى بعض البلدان الصغيرة على أنها مجرد بيادق يجب التضحية بها - جنباً إلى جنب مع شعوبها. 
«لا أستطيعُ أن أصدّق أن قوة من الدرجة الرابعة مثل فيتنام الشمالية ليس لديها نقطة انهيار»، هكذا قال كيسنجر ذات مرة، فقام بتكثيف القصف بما انطوى عليه ذلك من تكلفة بشرية مروعة. وكان ينظر إلى العالم من منظور القوة العظمى ولم يدرك أن فيتنام وكمبوديا لم تكونا مجرد قطع دومينو، وأن الذي كان يحفّز الفيتكونغ لم تكن أوامر من موسكو وإنما رغبة عميقة في السيطرة على بلدهم. 
والحقيقة أن أحد أكبر الأخطاء التي ارتكبتها أميركا خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية هو الفشل المتكرر في تقدير قوة القومية - وقد كان كيسنجر يجسّد ذلك. فكوارثنا في فيتنام وأفغانستان والعراق وإيران والعديد من الأماكن الأخرى كانت تعكس جزئياً غفلتنا عن التظلمات القومية. إنها نقطة عمياء غريبة بالنسبة لبلد مثل بلدنا الذي ظهر وخرج للوجود لأن بريطانيا تجاهلت قوميتنا الناشئة.
لآلاف السنين، كانت القوة العسكرية العملة الوحيدة في الشؤون الدولية. وكما قال ثوسيديدس في وصفه للمذبحة التي ارتكبها الأثينيون في ميلوس: «إن الأقوياء يفعلون ما يستطيعون فعله، والضعفاء يعانون كما ينبغي لهم أن يعانوا». كان ذلك هو النظام الذي استخدمه كيسنجر، وقد أتقنه وبرع فيه.
غير أنه كان قد بدأ يتغيّر. ذلك أن ما فكّك الاتحاد السوفييتي، على كل حال، لم تكن الصواريخ، وإنما الاقتصاد والاتصالات والمجتمع المدني – جزئياً بفضل «اتفاقيات هلسنكي»، التي ساهم كيسنجر في التوصل إليها في 1975، خالقاً بذلك مساحة صغيرة من المعارضة داخل الكتلة الشيوعية. 
كانت أجندة السياسة الخارجية في عهد كيسنجر تتمحور إلى حد كبير حول الحدود والحد من الأسلحة والتحالفات. وأصبحت الآن أوسع من ذلك بكثير إذ تشمل تغير المناخ، والاتجار بالبشر، ورقائق الكمبيوتر، والمخدرات، وحقوق الإنسان، والأوبئة، والاقتصاد، وغير ذلك. وبالتالي، فإن ما كان في السابق لعبة شطرنج ثنائية الأبعاد أصبح شطرنجاً ثلاثي الأبعاد، وهو ما يتطلب مجموعة أدوات أكبر بكثير لتحقيق النتائج. 
وكانت قوتنا الناعمة إحدى نقاط قوة الولايات المتحدة خلال معظم القرن الماضي حول العالم: الإعجاب بديمقراطيتنا وحرياتنا، والرغبة في اقتناء سراويل «الجينز» الزرقاء والأفلام وألعاب الفيديو، والاحترام الذي تحظى به جامعاتنا. ولكن في بعض الأحيان، كان عدم اكتراث كيسنجر لحقوق الإنسان والديمقراطية يعزّز قوتنا الصلبة مؤقتاً في حين يعرّض قوتنا الناعمة للخطر.
ولهذا أرى أن كيسنجر أكثر تعقيداً من أن يتناسب مع الصورة الكاريكاتورية لرجل دولة بطل أو لمجرم حرب. فما يغفله المعجبون به هو أن مئات الآلاف من الناس ماتوا بشكل غير ضروري بسبب أخطائه، وأن زلّاته في فيتنام وجنوب آسيا وأماكن أخرى من العالم ألحقت الضرر بمكانة أميركا. ومن جهة أخرى، فإن ما يغفله منتقدوه هو أنه نجح في الحد من خطر الحرب بين القوى العظمى وفي الشرق الأوسط، عاملاً في الوقت نفسه على تعزيز الحد من التسلح بشكل كبير. وبالتالي، فمن بعض النواحي، ساهم كيسنجر في جعل العالم أكثر أماناً.
ولكن، كيف يمكننا تطبيق دروس كيسنجر، مثلما طبّق هو دروس مترنيخ؟ 

وفي الشرق الأوسط، قد يكون أحد الدروس المستفادة هو أن التطلعات القومية الفلسطينية لإقامة دولة ستتفاقم إلى أن تتحقق، وأن «الحرب من أجل السلام» (كما سمّاها كيسنجر، أو كما يطبّقها رئيسُ الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو) تزهق الأرواح دون أن تؤدي إلى تعزيز السلام في الواقع.
غير أن هناك أيضاً درساً يتمثل في رؤية الأمل حتى في أحلك الأوقات، وفي امتلاك خيال لنرى 10 مرات أبعد كيف يمكن أن ترهق الأطراف المتناحرة نفسها يوماً ما وتصبح مستعدة للمصافحة. وهذا يعني ضرورة أن نسعى بلا كلل إلى تهييء الظروف المواتية لإنهاء الصراع حتى في أحلك الأوقات، مثلما فعل كيسنجر بصعوبة أثناء حرب أكتوبر 1973 وبعدها، وذلك حتى يخرج من الضباب في نهاية المطاف طريق للسلام.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»