لم تكن قوافل الخير المحملة بالعطاء الوفير والسخاء الكثير وهي تنطلق من أبوظبي سائرة في أرجاء العالم شرقاً وغرباً قريبة العهد أو محدودة المكان والزمان، بل إنَّها قديمة راسخة، ووجهتها أرجاء الدنيا الواسعة، حيثما حل خطبٌ أو نزلت بشعب أو أمة كارثةٌ أو عراها حاجة أو مكروه، إنه نهجٌ ترسَّخ في هذا الوطن على يد القائد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، فأضحى له في كل وطن على وجه الأرض ذكرٌ طيبٌ، وفي كل شعب احترام وتقدير لشخصه الموقر، ولوطنه الذي حلَّ تاجاً في مَفرِقه دولة الإمارات العربية المتحدة.
وكان على الدوام، طيب الله ثراه، يرعى حقوق الأرحام والأشقاء فيهبُّ إليهم سريعاً، ويعرف حق الجوار فيلبي صريخهم على استعجال رعاية لهذه الحقوق، وتقديراً منه للقيم الإنسانية والمثل العليا، وهذا نهج زايد الخير الذي سجل في صفحة التاريخ الغرّاء، وفي هذا النهج ترعرع وشبَّ صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، فنبتَ في فكره وقلبه قولاً وهو يسمع الشيخ زايد يسأل عن أحوال المحتاجين ويرسخ نوازع العطف والعناية بهم، وعملاً وهو يقوم بأعمال خيِّرة بنَّاءة للناس في جهات كثيرة من العالم بتوجيه والده المنعَّم طيب الله ثراه.
ونما هذا النهج واتسع في فكر صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، حفظه الله، فكانت له منذ شبابه بادرات خير، وأعمال بر، وسوابق فضائل، وكانت تتسع مع الأيام حتى أصبحت قوافل الخير التي تنطلق من أبوظبي برعاية صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد إلى جهات العالم كله في شعوبه من دون تمييز بين ألوانها أو أديانها أو مكانها، ولكنه بمشاعر الإيمان وتقدير ذوي القربى والأرحام هو أسرع ما يكون إلى الإحساس بهم عندما يكونون في محنة أو معاناة أو أزمة ونكبة وهذه شيمة ورثها كابراً عن كابر.
وها هي محنة الأشقاء في غزَّة المنكوبة وما حلَّ بهم من دمار وآلام في الأنفس والأموال والمساكن والعيال، وقد تقطعت بهم السبل في كل الحاجات والأحوال، وصراخ واستغاث فيهم الرجال والنساء والأطفال، وأصبحت مناظر غزَّة بعد البنيان والازدهار من خرابها ودمارها تُدمي قلبَ كل ذي قلب فيه شيء من إنسانية وتدعوه إلى الاستجابة وتلبية إنسانية هؤلاء من النساء والكبار والصغار.
وكان أول الملبين صرخاتهم، العارفين بحقوق رحمهم وقرباهم، المدركين لحاجاتهم، صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، فوجه قوافل الخير إليهم، وسيَّرها نحوهم، ونادى بأعلى صوت وهو أول من استجاب لهم: (لبيكم)، فقوافل الخير من دار زايد اتجهت نحوكم، فأعلن، حفظه الله، في الأيام الأولى بتقديم عشرين مليوناً من الدولارات مساعدة لهم ليقضوا بعض حاجاتهم، وهو الخبير المحنَّك بما تتركه الحرب من دمار وآثار وجراحات في الجسم والنفس عميقة الأغوار، وهذا يجعل الإنسان تحت وطأة ألمٍ دائمٍ وحزنٍ ليس له نهاية أو قرار، وخاصة في الأطفال الصغار الذين لم تعركهم الحياة، ولم يؤثر فيهم تقلباتها آناء الليل والنهار، فقلوبهم صفحة بيضاء، وأجسامهم غضَّة طريَّة تؤثر فيها نسمات الريح والهواء، فتوجهت قوافل الخير تحت سمع وبصر صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، حفظه الله، تحمل ما يسد جوعة الجوعى، أو يسهم في ذلك على أقل الأحوال، فأطنان الغذاء حملتها الطائرات سريعاً فكانت من أوائل ما وصل إلى حدود غزَّة الجريحة، وتطلعت إليها قلوب الغزيين القريحة، وحطت هذه القوافل هناك أحمالها وعادت أدراجها، لتعود بأمثالها عرفاناً من صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد بحق رحمهم وقرباهم، وبما تمليه مشاعر الإنسانية تجاه أخيه الإنسان.
ولكن هذه المصيبة الدهياء في غزَّة وأهلها جعلت الحاجة إلى الدواء قبل الغذاء، لتخفيف آلامهم، فلم يكتف، حفظه الله، بكميّات الدواء الكبيرة التي حملتها قوافل الخير من أرض الإمارات، بل اتبع هذه القوافل وألحقها بمستشفى ميداني كبير يظهر أمام الناس كلهم للعيان ليأتيه كل جريح أو طريح، فيجد فيه العلاج والرعاية وتخفيف العناء، وربما وجدوا غير ذلك مما يزرع فيهم أمل الحياه ورؤية المستقبل، فكان المستشفى الإماراتي أول مستشفى يدخل إلى أرض غزَّة حسب علمي، وتبعته قافلة الهلال الأحمر الإماراتي الذي له في كل أرض علمٌ شامخٌ، وفي كل شعب قبول وحب راسخ، فمدد الهلال الأحمر الإماراتي متجدد كلما دعت الحاجة، وفزعته مستمرة لكل من نادى بالمساعدة، وليست هذه المرة الأولى التي يدخل فيها الهلال الأحمر الإماراتي أو الدواء والغذاء من هذا الوطن المعطاء، بل كان على الدوام حاضراً مع الأشقاء في غزَّة وفلسطين كلها منذ أيام القائد المؤسس الشيخ زايد، طيب الله ثراه، الذي يتردد اسمه في غزَّة على الدوام، وذكره الطيب سار في القيادات الفلسطينية وشعب فلسطين مع الأيام، وهذه حلقة جديدة في السلسلة الطويلة من قوافل الخير.
صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، حفظه الله، سبق بما لم يسبق إليه في هذه المحنة، إذ إن معاناة الطفولة لها في القلوب وقعٌ كبيرٌ على الطفل المريض ووالديه، ثم أسرته ثم المجتمع كله بعنائها وآلامها الجسيمة والنفسية والمادية، ولا سيما في الأمراض التي يقل فيها الدواء الناجع كأمراض السرطان، فحملت قوافل الخير التي وجهها الشيخ محمد بن زايد مئات الأطفال من أهل هذه المعاناة إلى أبوظبي تستقبلهم مستشفياتها وتقوم نحوهم بكل طاقاتها وإمكاناتها، ليعود هؤلاء الأطفال إلى الحياة أصحاء أسوياء، وقرر، حفظه الله، أن يكون عددهم ألفاً لا يقلون عن ذلك، ولقد فتح بذلك باباً عظيماً لتخفيف هذه المعاناة، وحط عن عائلات هؤلاء الأطفال وعن المجتمع الغزِّي كله ثقلاً كبيراً وأزاح خطراً جسيماً، وفتح كذلك الباب أمام كل محب للخير ومتعاطف مع أصحاب الجراح أن يحذوا حذو هذا العمل النبيل، ويختص كل قطر وصاحب خير بعلاج نوع من الأمراض والعلل والجراح التي هزَّت القلوب، وحركت جميع الشعوب، وفي هذا الخير (... فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ).
إن هذا من مبادرات الخير التي سبق بها هذا القائد الفذّ ببعده الإنساني وبعنصره الشَّهم العربي، الذي أعطى لهذه القوافل اسم النُّبل والشهامة (الفارس الشهم) تعبيراً عن هذين البعدين، البعد العربي في نخوته وأصالته، والإنساني في رؤيته وامتداده.
وإن القائد الفذّ الشيخ محمد بن زايد وهو نبض شعبه وإحساس وطنه أراد أن يتحرك المجتمع الإماراتي كله بمشاعره وعواطفه ومؤازرته المادية والمعنوية، فأطلق حملة (التَّراحم من أجل غزَّة)، وتزاحم المواطنون والمقيمون وهم يُسرعون للتعبير عن هذا التراحم والتعاطف، وظهرت مشاهد مؤثرة، وكان من أعظم ما أثّر بي منظر الشباب والشابات وهم يتسابقون لتلبية نداء القائد، يتطوعون في تأطير هذه الحملة المباركة، ويساعدون فيها وفي إعداد موادها التي ستحملها قوافل الخير إلى غزة وأهلها.
وقد أراد صاحب السمو رئيس الدولة، حفظه الله، أن يربط الأجيال الصاعدة من الشباب ذكوراً وإناثاً وهم يتطوعون ويسمعون عن غزة وفلسطين بما كان عليه آباؤهم وأجدادهم وبما كان عليه حكام هذا الوطن من تعاطف وتجاوب مع القضايا العربية والإسلامية والإنسانية، كما أراد، حفظه الله، أن يستثير فيهم نوازع الخير والإنسانية، لتكون حاضرة حية قوية في قلوبهم وتفكيرهم وسلوكهم، وقد حصل ذلك فاهتزت القلوب وجاشت العواطف.
إنها حلقات مترابطة واسعة في ربوع هذا الوطن، تبدأ من قيادته وتنتهي بصغاره وشبابه ذكوراً وإناثاً في التجاوب مع هذا الجرح الأليم في غزة فلسطين، وتؤكد أن هذا الحاضر هو امتداد للماضي، ومنطلق للمستقبل في الحفاظ عن القيم ورعايتها وتوريثها من السابقين إلى اللاحقين، هذه الحلقات المترابطة القوية داخل هذا الوطن تظهر خارجه جلية واضحة في القوافل التي تحمل الخير والعطاء، ويقف على صناعتها وتوجيهها وإرسالها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، وهذه قوافل الخير قد وصلت ولا تزال متتابعة إلى غزة.
حفظ الله القائد الباني والرائد الإنساني، وحفظ الله هذا الوطن أرض العطاءِ والوفاءِ والسخاءِ في السرَّاءِ والضرَّاءِ.

المستشار الدكتور/ فاروق محمود حمادة.