عملية قياس اليوم على الأمس خطأ مجحف، لأن المعطيات مختلفة. في عام 1993، كان للفلسطينيين زعيم واحد اسمه ياسر عرفات، وكان يقود كلاً من منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية المنبثقة عنها، وكان هو الذي قاتل لعقود كي تكون المنظمة ممثلاً شرعياً و«وحيداً» للشعب الفلسطيني رغم كل المحاذير التي تحولت إلى حقائق راهنة. في الطرف الآخر، من نفس العام كان إسحاق رابين رئيساً لوزراء إسرائيل في تحالف حكومي صلب مؤمن بالسلام عكس مزاج الإسرائيليين العام بالتوجه نحو السلام، المعارضون وقتها من اليمين الإسرائيلي كانوا أقلية فعلاً وعلى الأرض.

كانت واشنطن كذلك منتشية بانتصاراتها بدءاً من حرب باردة سقط فيها معسكر الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفييتي، وحرب الخليج التي فرضت في نهايتها ما شاءت من شروط على العراق المنهزم في حرب تحرير الكويت، وذلك بدعم أممي كان يلتف حول واشنطن. اليوم، وبعد كل هذه العقود بكل ما فيها من تراكمات ومنعطفات واستدارات ومتغيرات وغياب مَن غاب وحضور مَن حضر.. فإن المعطيات أصبحت مختلفة بشكل كامل! الفلسطينيون اليوم، وبشكل فعلي، بلا «زعامة» موحدة؛ فالسلطة الوطنية منهكة ولا تكاد سلطتها تتجاوز محيط مخافرها الأمنية، والزعامات تشرذمت وتشظت بين الفصائل التي تنازعت على ما تبقى، والاحتلال أعاد إنتاج نفسه عسكرياً، وغزة أشعلت المنطقة. في إسرائيل، معطيات اليوم تتحدث عن مزاج عام إسرائيلي غيرته التراكمات الطويلة، فاتجه نحو اليمين المتطرف وانتخبه على صيغة حكومة بنيامين نتنياهو، والمعارضة المؤمنة بالسلام هي اليوم أقل بكثير من تلك اليمينية التي كانت في عام 1993. واشنطن، مشغولة حد القلق في جبهات متعددة أمام قوى عالمية أكثر شراسةً وذكاءً، مما يجعل المرء يتخيل أن الولايات المتحدة تترحم على أيام الحرب الباردة، والأممية تأثرت بكل تلك المتغيرات العالمية التي أثرت أيضاً على الإقليم الذي وجد ذاته مضطراً لحسابات المصالح الحيوية في كل دولة.

وعليه، فإن المعطيات الجديدة تماماً، والتي نعيشها اليوم ساعة بساعة ودقيقة بدقيقة أمام ثورة تكنولوجيا معرفية بصرية توثق اللحظة، والمعلومة فيها تقفز فوق حواجز الحجب التقليدية، تتطلب أدوات تعامل جديدة ومناسبة ومختلفة. إقليمياً، كان الإدراك مبكراً قبل أحداث السابع من أكتوبر بكثير، منذ الأزمتين العالميتين: جائحة الوباء ثم حرب أوكرانيا، كانت هناك قراءة مبكرة للمتغيرات في العالم ومنظومة العلاقات الدولية، فكان الحل بمفهوم التكامل الإقليمي. واليوم، يتعرض المفهوم نفسه للخطر بعد أحداث غزة وما يصاحبها من تصعيد يتسع ويؤثر على العالم كله.

ما يزال مفهوم التكامل الإقليمي قابلاً للحياة، وهو معروض كحل حقيقي، لكنه يتطلب محدداتٍ إقليميةً لا بد أن تقوم على تفاهمات جديدة توازن بين مصالح الدول والمصالح الإقليمية كخطوط متوازية لا يجب أن تصطدم ببعضها بعضاً. يقولون إن هناك تصعيداً قد يصل إلى حرب! لكن مَن قال إن الحرب ليست قائمةً الآن؟ أليس هناك حرب لكن بأدوات جديدة مختلفة عن أدوات وأشكال الحروب السابقة؟

*كاتب أردني مقيم في بلجيكا