إنَّ وحدة الوجود البشري والمصير الإنساني أصبحت حقيقة واضحة لكل عاقل، وإنْ القضايا الكبرى أصبحت تواجه الناس جميعاً، وقوة تأثير هذه القضية وعمقها يزداد يوماً بعد يوم.
وفي مقالٍ سابقٍ تحدثت عن جهود القائد الفذِّ صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله لمواجهه أخطر القضايا الكبرى عالمياً، وإن كثيراً من الملفات العالمية قد أخذت قسطاً كبيراً من جهده وتفكيره وعمله اليومي، وتحدثت عن كارثة المناخ التي تواجه العالم وكيف هبَّ حفظه الله منذ مدة طويلة لوضع هذا الملف الخطير أمام كلّ مسؤولٍ عاقلٍ على كوكب الأرض، وتقدَّم حفظه الله به في خطواتٍ إيجابية كثيرة، وأدرك العالم خطورته، وأصبح صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد عنواناً عالمياً في ميدان الحفاظ على المناخ بكل ما يشمله من حياةٍ طبيعيةٍ وأحياءٍ من البشر وغيرهم.
وإنَّ هناك قضايا عالمية تواجه مستقبل البشرية وأخطارٍ منها: الحروب الدينية، والفقر وقلة المياه، ونقص التعليم، وانتشار الأمراض الفتاكة، والنزاعات الإقليمية والعالمية، والنقص في الطاقة أو سوء توزيعها، وحرمان مناطق وطبقاتٍ بشريةٍ من العيش الكريم بأشكاله المتعددة، وغيرها من القضايا التي يتداخل فيها الاقتصادي بالسياسي، والوطني بالعالمي، والإقليمي بالوطني، وغيرها.
وقد كان صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، حفظه الله منذ أمدٍ بعيدٍ يدرك أنَّ التعاون بين البشر من أهم عوامل ضمان المستقبل في أمنه واستقراره وتطوره وازدهاره، فهناك بلاد تمتلك موارد أوليّة كثيرة وقوية، ولكنها لا تمتلك الخبرات الفنية والتقنية التي تؤهلها للاستفادة من هذه الموارد الأولية، وهناك بلاد تمتلك الخبرات والموارد ولكنها لا تمتلك الوسائل والأدوات والثروات التي تستطيع بها الاستفادة من مقدراتها، ولا يوجد بلد صغيرٌ أو كبيرٌ على كوكب الأرض إلا وفيه خيرات، ويمكنه تقديم شيءٍ نافعٍ للأسرة البشرية، كل ذلك بتوزيعٍ إلهي عادل، وإنَّ الناس اليوم في تقاربهم والإحساس ببعضهم أصبحوا كتلةً واحدةً، حتى إنَّ تعدد اللغات الذي يعيق التواصل قد ذابت بفعل التكنولوجيا التي جعلت الإنسان من أي مكان يجلس إلى آخر ويتحدثان ويتفاهمان بدون حواجز، فاللغة توحدت بوسائل الترجمة الفورية وهي في متناول كل الناس، وهذا مثالٌ على إحساس البشر بأنهم كتلة واحدة.
وإنَّ التعاطف الذي هو فطرة إنسانية يمتد ويتسع بين البشر يوماً بعد يومٍ ويتعمق وكذلك الحدود شبه ملغاة الآن مع التواصل السمعي البصري.
إنَّ جزءاً كبيراً من الكتلة البشرية يتوق إلى الرقي والارتفاع في كثيرٍ من جوانب حياته وهو يرى صباح مساء جزءاً آخر من البشر يتمتع بخيرات ورفاهية لم يصل بعدُ إلى عشرها، وهذا يشحن القلوب ويملؤها بالتوثُّب، والاستعداد للاضطرابات الاجتماعية في كثير من أرجاء العالم، وبالتالي فعدم الاستقرار سيكون مصيراً واحداً لجميع سكان الأرض؟
وإنَّ الفكرة الرائدة لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد التي نادى بها بين الشعوب والدول بدءاً من التسامح، ورؤية الإنسان بنظرة رحيمة لأخيه الإنسان، وأن جميع الخلائق متساوون في الإمكانات والمواهب قد دعم هذا الفكرة بثوابت إنسانية أخرى على رأسها التعاون بين البشر في أرجاء العالم كله.
إنَّ التعاون بين الشعوب قد أصبح قضية كبرى ضرورية لمستقبل البشر، فإما هذا وإما استمرار النزاعات والخصومات والغارات والثارات.
إنَّ التعاون بين البشر قضية مركزية في فكر الشيخ محمد بن زايد، حفظه الله، منذ مدة طويلة ويبذل في سبيلها جهوداً متلاحقة، وقد تدرج هذا التعاون في مراحل وسيكون له في جهد  رئيس الدولة، حفظه الله، مراحل أخرى.
أما المرحلة الأولى: فهي الاتفاقيات التي تقوي هذا التعاون في المنطقة المحيطة بدولة الإمارات العربية المتحدة، وتفتح الأبواب والآفاق للاستقرار والازدهار والأمن والطمأنينة والإنتاج النافع للمنطقة، وبالتالي لجهات العالم والتعاون الاقتصادي، هو جزءٌ من ذلك وليس كلَّ شيء، وبناءُ الشراكات المتعددة مظهرٌ من مظاهر هذا التعاون، وكان في ذلك خيرٌ كثير…
أما المرحلة الثانية: فقد ركز صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، حفظه الله، على التعاون الدولي، وتوجه، حفظه الله، إلى تعاونٍ بنَّاءٍ مع كثيرٍ من الدول التي قطعت شوطاً عظيماً في الحضارة، ولها حضور عالمي، فمدَّ حبال الخير إليها، ومدت إليه يد المحبة، فأصبحت دولة الإمارات العربية المتحدة بفضل هذه الرؤية الحكيمة حاضرةً في كثيرٍ من الدول في شرق الأرض وغربها حضوراً له شأن عظيم، أدرك أبناء هذا الوطن كلّهم من أصحاب رؤوس الأموال وغيرهم، وأبناء تلك الدول والشعوب فائدة هذا التعاون وأهميته، وهذا التعاون ضمن لهذا الوطن منافع يصعب على الإنسان حصرها، فانتقل، حفظه الله، إلى المرحلة الثالثة: وهي الشراكات الاستراتيجية التي تجعل من الدول المشتركة مع دولة الإمارات العربية المتحدة في ارتباطٍ عضوي وتعاونٍ لا ينفصم ونظر بعيد إلى المستقبل القريب والآتي، ويتقدم بالشعوب إلى الأمام ويزيدها الثقة والاطمئنان والوضوح في رؤية هذا المستقبلٍ.
وانتقلت مرحلة الشراكات الاستراتيجية إلى مرحلة التعاون العالمي بين مجموعة دول - وقد تكون متباعدة أيديولوجياً - في قضايا كبرى بدأت من فكر صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، حفظه الله، بالاتفاق على قضايا المناخ والبيئة، وشارك في هذا التعاون عملياً مجموعة دول وشعوب من الجهات الأربع، وهو مقدمةٌ وفاتحة جيدة لتعاونٍ عالمي أوسع في قضايا أخرى.
وهذا التعاون والشراكات مع الدول الذي أيقن صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، حفظه الله، بفائدته الإنسانية وجدواه لكل البشرية أعطاه في المدة الأخيرة وقتاً وجهداً عظيماً، ليرسّخ هذا التعاون ويرى الناس كلهم سواء كانوا أفراداً عاديين أو في موقع المسؤولية نفعَه وفائدته.
وإن الرحلات الخارجية الأخيرة لصاحب السمو رئيس الدولة، حفظه الله، تصبُّ في هذا الاتجاه وتجعله تياراً كبيراً عالمياً، وكلما تقوى هذا التيار واتسع فإن المعاناة البشرية تقل وتضعف.
وإنَّ الناظر في رحلات صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد وتأكيده لهذا الاتجاه يرى أنه متسع في أرجاء العالم كله شرقه وغربه، شماله وجنوبه، فإذا ما سافر إلى بلدٍ فهو يحمل الخير معه، ويفتح أبواب المستقبل لتلك الدول والشعوب التي يزورها بهذا التعاون.
إنه، حفظه الله، يرسّخ ضرورة التعاون العالمي ويدعو إليه، لتحقيق مقاصد إنسانية نبيلة، تتحول البشرية من خلالها بهدوءٍ وسرعةٍ وأمن إلى تعاون إيجابي بناء، فلا تعرف اضطراباتٍ ولا نزاعاتٍ، ولا عقدة تفوق شعبٍ على شعبٍ آخر.
واليوم برؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد هو تعاون قائم على التساوي والتكامل فمواهب البشر متساوية، ويمكن لمقدراتهم أن تكون متكاملة تعود بالخير على الجميع.
وإذا كانت بعض الشعوب الأفريقية وغيرها تتوجس الخوف من بلاد كان لها أثرٌ سيئ وفعلٌ مؤذٍ في تاريخها، فإنَّ فكر الشيخ محمد بن زايد، حفظه الله، يطوي هذه المرحلة ويغطي تلك الآثار بهذا التعاون والتكامل، وقد خص، حفظه الله، القارة الأفريقية بمزيدٍ من العناية والرعاية من خلال الشراكات والتعاون، ومؤازرتها على مستوياتٍ عديدة.
إنَّ هذا التيار العالمي الذي يقف على رأسه فكراً وعملاً صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، حفظه الله، هو الذي سيسحب بساط التوتر والقلق من المناطق المضطربة، ويرفع شأن البلاد المتأخرة ويزرع أمامها الأمل بطرائق جديدة من الإنتاج والعمل، ويفتح الباب للمواهب والكفاءات، لتسهم في خدمة البشرية وصناعة مستقبلٍ آمنٍ أينما كان موقعها وكيف ما كان لونها وثقافتها، ويجعل مقاومة المشكلات الكبرى عالمياً.
إنَّ عقدة التفوق من شعوب تجاه شعوب أخرى قد سادت لعدة قرون، وقصرُ النفعِ والفائدة لجزء من البشر في ناحية محددة من العالم قد بدأ يتقلص، كما أن آثار الحرب الباردة قد بدأت تختفي ولعلنا في أُخرياتها، وأصبح التعاون العالمي ضرورةً لكل الناس شرقاً وغرباً بغض النظر عن الأنظمة السياسية واختلاف الثقافات، ويقوي ذلك التواصل المتزايد ويتطلبه العيش المشترك والمصير المشترك، ولن تختفي آثار الفقر والعدوانية وكثير من الجرائم إلا بالترقية الاقتصادية والتعاون والإحساس المتبادل بين البشر، وفي كوكبنا مجالات لا تحصر للتعاون البناء النافع للبشرية كلها في الأرض والبحر والفضاء، فإذا وُجِّهت توجيهاً إنسانياً بناءً فهنا سيدخل العالم عصراً جديداً، وتاريخاً إنسانياً واحداً آمناً، وهذا هو التوجه الإنساني الذي يسير به بثبات وجهود حثيثة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، حفظه الله، لأنه الطريق الآمن للمستقبلٍ وهو الذي يتطلع إليه العقلاء، ويبحث عنه المتعبون في أرجاء العالم.
حفظ الله صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد قائداً إنسانياً، ورائداً عالمياً، وجعل خطواته مباركة حيثما توجه وسار، وحفظ هذا الوطن الذي أعلى رايته هذا القائد المبارك، وفتح له آفاق الأرض وأرجاء السماء.
*المستشار الأستاذ الدكتور/ فاروق محمود حمادة.