لم تكن الإشكالية متعلقة بالقدرة الأميركية على الرد على مختلف جبهات الإقليم، وعدم اقتصارها على اليمن، رداً على استهداف الحضور العسكري الأميركي في واقعة استهداف القاعدة الأميركية في الأردن، وإنما بالقدرة على استعادة الردع، والتعامل خاصة أن التهديدات والمخاطر على الوجود الأميركي مرتبط بالمواقف الأميركية المنحازة تجاه إسرائيل في الشرق الأوسط، وعدم مسعاها لإيقاف الحرب الدائرة في قطاع غزة.

ويبدو أن الأمر يتعلق بالترتيبات الأميركية الجارية في الوقت الراهن، سياسياً وأمنياً واستراتيجياً، والتي ستكون غزة بدايتها خاصة وبرغم تخوف الإدارة الأميركية من انفتاح بنك الأهداف من الأطراف الوكيلة بإيعاز من إيران، والتي تنكر صلتها بما يجري، وبرغم اتباعها استراتيجية تهدئة جبهة، وتسخين أخرى تكمن اتجاهات السياسة الأميركية التي تعمل بضوابط محددة، ومن خلال الحرص على إعادة ترتيب المهام الاستراتيجية، سواء في النطاقات الاستراتيجية، أو مناطق الصراعات التي تتحرك فيها وتستهدف تعزيز وجودها، وتعمل على الانتقال من خلالها إلى مسافات أكثر حضوراً واستقراراً، ومجابهة الوكلاء الإقليميين بصورة مباشرة وإيران، وحضورها في الإقليم بصورة غير مباشرة، وارتكاناً على سياسات مهمة ومباشرة تدفع لوضع ضوابط للاشتباك الاستراتيجي، وهو ما تقابله الأطراف الوكيلة برد فعل معاكس، والتي تتحرك في مواجهة السلوك الإسرائيلي في غزة.

سيستمر الحرص الأميركي على دعم إسرائيل، وعدم التصعيد في مواجهة إيران، أو الانطلاق إلى مواجهات غير محسوبة بالفعل، خاصة أن الجانب الأميركي عمل على ضبط المشهد، انطلاقاً من عدم وجود مبررات عاجلة لمواجهة إيران، أو الدخول في مواجهة مفتوحة معها، أو الإيعاز مسبقاً للجانب الإسرائيلي بعدم الذهاب للخيار العسكري، ونجحت إدارة الرئيس جو بايدن في إتمام ذلك.

الأمر مرتبط بحسابات كبرى حقيقية، وليس فقط بعدم الدخول في مواجهات استراتيجية غير محسوبة في الوقت الراهن، ما يؤكد أن دخول الولايات المتحدة في دائرة العمل العسكري ستكون مرتبطة بالفعل بدور استراتيجي، ومحاولة ردع الأطراف الوكيلة التي يمكن أن تمثل تهديداً كبيراً على الأمن القومي الأميركي، أو من خلال ردع استباقي يقوم على تبني حل دائم في التعامل مع إيران التي تراهن على رحيل الإدارة الأميركية الراهنة، واحتمال عودة الرئيس السابق ترامب لسدة الحكم، ما سيتطلب تغييراً في التعامل.

الولايات المتحدة لا تريد في هذا التوقيت الدخول في مواجهة جديدة مع التركيز على الحل، في غزة مع ممارسة أكبر قدر من الضغوط على الجانب الإسرائيلي، للانخراط في مسار الحل، ولو التدريجي مع تقبل الذهاب إلى مواجهات خاطفة للرد على أي سلوك غير منضبط من أي وكيل يتبع إيران مع عدم العمل على خيارات صفرية، بل على مجموعة خيارات، وسيناريوهات تجمع بين الردع المباشر التدريجي، وتبني مقاربات توافقية، وبين إظهار استخدام القوة السياسية والاستراتيجية الكبيرة، وهو ما تعمل عليه إدارة الرئيس جو بايدن، والتي تراهن على خيارات التعامل مع إيران حتى الآن مع استبعاد الخيارات الحاسمة، والتي لن تأتي بجديد في إطار ما يجري من أولويات قد تكون مكلفة لأي طرف رئيس، وعدم الاقتصار على الجانب الأميركي الإسرائيلي من جانب وإيران، ووكلائها من جانب آخر. وهنا مكمن الأهمية.

فالحل ليس في توجيه ضربات موجعة أو رمزية، وإنما العمل في اتجاه محدد منضبط، ووفق صيغة محددة مختلفة عما كان في إطار المواجهات غير الطارئة، والتي تعمل في اتجاه واحد، وقد تذهب بالإقليم لمزيد من المواجهات العسكرية، وسيكون لها انعكاساتها على كل الأطراف. ويبدو أن الترتيبات الأمنية المحتملة لن تقتصر على أمن الإقليم، بل ستمتد إلى مناطق أخرى، خاصة أن الولايات المتحدة ستعمل في مساحات مهمة من الخيارات ليس بينها فقط الحل العسكري، أو الاستراتيجي.

الجانب السياسي سيكون حاضراً أيضاً في إطار ما يجري من ترتيبات بعد أزمة غزة، وقد يدفع إيران ووكلائها إلى نقل رسائلها بصورة أو بأخرى، ما يعني أن الأمر لن يكون مقصوراً على إنهاء الحرب في غزة ليهدأ الإقليم، بل بالعكس سيعمل كل طرف على تطوير استراتيجية الردع، والردع المقابل في إطار حسابات مدروسة ومخططات يجري العمل عليها، إيرانياً وأميركياً، وستتأثر بطبيعة الحال الأطراف الإقليمية والعربية مما يجري.

خريطة الشرق الأوسط ستتغير بالفعل بدءاً من قطاع غزة، وأن الحل ليس في استقرار الإقليم بإنهاء حرب غزة فقط، بل من خلال العمل على فرض الترتيبات الأمنية والاستراتيجية مجدداً، والتي ستتم بصرف النظر عن طبيعة ما يجري من تحولات وتقلبات في المنطقة، وفي ظل حالة من السيولة السياسية التي لاتزال تعلن عن نفسها في مساحات التجاذب العديدة في الإقليم، وما جرى في غزة سوى نموذج لصراع ثنائي ومتعدد الأقطاب ظل يبحث عن حل طوال سنوات ممتدة وقابل للتكرار في الأزمات الأخرى.

*أكاديمي متخصص في الشؤون الاستراتيجية