برغم كل ما يقال إن الإدارة الأميركية الحالية في حالة انقسام داخلي بشأن التعامل مع حرب غزة وإسرائيل، والتعامل مع تطورات الأوضاع في حرب غزة بعد الاجتياح الأخير لرفح، وبدء مرحلة جديدة من المواجهات تستهدف البدء في تنفيذ الترتيبات الأمنية على الأرض وفق مخطط مجلس الحرب، وتوافقات قادة أجهزة المعلومات، إلا أن كل المؤشرات تشير إلى عكس ذلك خاصة، وأن الموقف الأميركي الداخلي ليس ممثلاً فقط في شخص الرئيس جو بايدن، والذي لا يلم بتفاصيل الصراع الراهن، وغير متابع بصورة جدية لما يجري في إشارة مهمة إلا أنه لا يهتم بالتفاصيل، وأنه يكتفي بتبادل الاتصالات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو من دون أن يملك القدرة على ممارسة دور حقيقي، مكتفياً بمتابعة ما يجري مما دفع الأطراف المعنية، ومنها مصر وقطر والأردن، والذي التقى ملكها عبدالله الثاني مؤخراً، ومارس عليه ضغوطاً حقيقية لوقف الحرب في غزة، إضافة للسعودية التي ما تزال إسرائيل تسعى لورقة التطبيع معها في خضم ما يجري، وفي إطار صفقة أشمل لن تقتصر على غزة فقط.

الإدارة الأميركية الحالية لا تواجه انقساماً في الرؤية تجاه التعامل مع إسرائيل، أو التوافق بشأن غزة وما سيجري من ترتيبات مكملة لها بل إن ظهور العنصر الأمني والاستخباراتي ممثلاً في ويليام بيرنز مدير الاستخبارات المركزية، يشير إلى مسعى أميركي للعمل وفق صيغة باريس التي تتم بتوافقات بين قيادات أجهزة الاستخبارات للدول المعنية، والتي تتم في سياق من الخيارات المدروسة بصرف النظر عن طبيعتها التي تتم في هدوء، وبعيداً عن الصخب الإعلامي، أو العمل على جزئيات حقيقية محددة خاصة أن الأطراف المعنية لا تريد أن تصطدم ببعض حتى الآن بدليل مشاركة إسرائيل فيما يجري.

ومن الواضح أن هناك اهتماماً أميركياً بتقديم حوافز للحكومة الإسرائيلية يمضي على قدم وساق بدليل توقيع صفقة السلاح المطلوبة بقرار من وزير الخارجية الأميركي بيلنكن لاعتبارات الطوارئ الفيدرالية، ما يؤكد على عدم وجود تجاذبات كبرى داخل الإدارة بصرف النظر عن فشل تمرير مشروع رصد أموال جديدة لأوكرانيا وإسرائيل رغم أشهر من المفاوضات المعقدة في شأنه، وبضغط من الرئيس السابق ترامب، الذي دعا إلى مقاطعة المشروع، حيث صوت الأعضاء «الجمهوريون» ضده، حيث أسقط مجلس النواب، مشروع قانون لتمويل إسرائيل وصلت قيمته إلى أكثر من 17 مليار دولار، وبهذا تكون مساعي رئيس مجلس النواب «الجمهوري» مايك جونسون، بطرح مشروع التمويل منفصلاً عن حزمة التمويل الشاملة التي طلبها البيت الأبيض من الكونجرس، قد باءت بالفشل. ولكن هذا الموضوع في مجمله لا يشير إلى مساحات من التباين بل في إطار من المساومات المتعلقة بصراع الحزبين «الجمهوري»، و«الديمقراطي» مع التوقع أن «إيباك» كبرى المنظمات اليهودية في واشنطن سيكون لها قرارها، وموقفها في حسم الأمر.

الرئيس الأميركي بايدن ما زال يناور في اتجاه الحصول على أصوات الشرائح المهمة، وإنْ كانت غير مؤثرة، كما يتصور بعضهم ومنها صوت الجاليات العربية والإسلامية والشرائح الملونة، وغيرها ما يعني أن الرئيس الأميركي بايدن يضع في تقديره عدم الصدام المباشر مع الحكومة الإسرائيلية في جوهر الأمور سواء في حرب غزة، أو ما سوف تسفر عنه من تطورات استراتيجية على الأرض، وكذلك لما يمكن أن تحدد الدور التي يمكن لإدارة بايدن أن تقوم به في المرحلة المقبلة خاصة، وأن الرهانات الكبرى في الصراع على الوصول للبيت الأبيض في الانتخابات المقبلة سيكون فيها صراع ليس على الصوت اليهودي فقط، وإنما التركيز على أولويات الإدارة الأميركية المقبلة في العالم، وليس في الشرق الأوسط، أو مناطق الصراعات الكبرى فقط.

الإدارة الأميركية الراهنة تعمل على تقليل مساحات الصراع بالفعل في المنطقة تخوفاً من اتساع المشهد العسكري، وهو أمر متوقع بالفعل وقد يحدث بالفعل في ظل امتداد المواجهات الراهنة في غزة، وعدم وجود أفق سياسي حقيقي خاصة، وأن كل الظروف الحالية مهيأة تماماً لما يجري سواء في الضفة، أو الإقليم، وفي حال تطوير المواجهات غير المباشرة بين ايران والولايات المتحدة ما يؤكد على أن الإدارة الأميركية تعمل في مساحة منضبطة من الخيارات، ولا تريد بالفعل تمدد المواجهات لكنها واقعياً عاجزة تماماً عن الضغط على إسرائيل لتوقف المواجهة، وإنما مناشدتها لمنع وقوع المدنيين في ساحة المواجهة، كما تتخوف من تحولات عربية حقيقية في اطار العلاقات مع الشركاء، وما يجري في مسار العلاقات العراقية الأميركية مرشح للتكرار مع دول عربية أخرى.

الإدارة الأميركية أمامها تلال من الملفات التي تحتاج إلى حسم سواء من الإدارة الأميركية، أو من الكونجرس خاصة، وأن المصالح الأميركية ستتعرض بالفعل للخطر جراء ما يجري، فالعالم بالنسبة للولايات المتحدة ليس فقط إسرائيل، وما قد تسفر عنه الحرب في غزة سيكون نموذجاً لما قد يجري من صراعات في الإقليم وخارجه.

*أكاديمي متخصص في الشؤون الاستراتيجية.