مع اقتراب موعد الانتخابات الأميركية تزداد الحملات ضراوة، والمناوشات اتساعاً، والاتهامات المتبادلة سخونةً.. بين المرشحين الذين يسعى كل منهم إلى إضعاف الآخر، وإلى كسب أصوات الناخبين الأميركيين، بغية الوصول إلى سدة رئاسة البيت الأبيض.

وقد عادت محاكمةُ الرئيس السابق دونالد ترامب الذي مثُل أمام القضاء الأميركي في مطلع أبريل الماضي، حيث وُجهت له 35 تهمة. ومؤخراً عادت قصة المحاكمة مرةً أخرى إلى الواجهة، وبقوة هذه المرة، حيث أخذت أصداء واسعة داخل الولايات المتحدة وخارجها، وضجّ بها الإعلام على نحو مكثف ولافت للنظر، وربما استفاد منها ترامب نفسه في تلميع صورته وتسليط الضوء على شخصه مرة أخرى، حيث بدا أقوى مرشح بعد أن خسر في انتخابات عام 2020.

لقد ظهر مجدداً من خلال هالة الإعلام التي أحاطت بمحاكمته، لا سيما بعد إلغاء حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي، ومنعه من استخدامها، ما جعله يعلن عن منصة خاصة به لم يفلح إلى الآن في إطلاقها.

لكن خسارة ترامب الانتخابات الرئاسية عام 2020 أدت إلى انشقاقات داخل الحزب الجمهوري، وإلى حدوث تصدّع في الشارع الأميركي أصاب صورة الدولة الأميركية نفسها بشروخ واضحة. واستفادت الإدارة «الديمقراطية» أيضاً من هذه الزوبعة في تلميع سمعتها، إذ حاولت أن توصل من خلالها إلى الرأي العام رسالة مفادها أنه لا أحد فوق نصوص القانون وسلطة القضاء.. لكن هل تلقى كل المواطنين الأميركيين هذه الرسالة وتقبلوها؟

لا شك في أن صورة أميركا قد اهتزت نوعاً ما في أذهان بعضهم بسبب الصراعات الداخلية، وأيضاً بسبب بعض المواقف والقرارات الخارجية، خصوصاً بعد انسحابها المفاجئ من أفغانستان في أغسطس 2021، بلا مقدمات ودون سابق إنذار.. وهو ما كشف درجة من الارتباك في صناعة القرار.

وقبل ذلك كانت الولايات المتحدة قد تورطت في غزو العراق عام 2003 وفي إسقاط نظامه وحل جيشه وبقية مؤسساته، وما ترتب على ذلك من تمزق وتفكك وفوضى جعت البلاد مرتعاً للإرهاب، فتهدمت البنية التحتية وتفشت الأمية، وتنامى الفقر، وترسخت الطائفية، وانفرط عقد الهوية الوطنية للبلد واضطربت تركيبته السكانية.. ما جعله ساحةً للصراعات الحزبية والطائفية والقبلية والعرقية والإثنية، فنشأت الميليشيات الطائفية المسلحة وتقوت شوكتها قبل أن تنقلب على أميركا (حليفتها السابة)!

وبالطبع فإن القضاء الأميركي، المستقل والعادل والنزيه، لم يفتح إلى الآن أي تحقيق حول ما تعرض له العراق والعراقيون من معاناة وخسائر جراء الحرب، وما تعرضت له بلدان أخرى جراء تلك الحرب وتداعياتها، وخاصة فيما يتعلق بانتشار ظاهرة الإرهاب الأعمى والاضطرابات التي أسقطت عدة حكومات وتحولت إلى حروب أهلية لم تندمل جراح بعضها حتى اليوم، وأصبحت بسببها شعوبٌ في أسوأ حالاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية.. حسب وصف المرشح «الجمهوري» والرئيس السابق دونالد ترامب نفسه.

والكل يعلم أن ذلك إنما حدث جراء سياسة «الفوضى الخلاقة»، وما ارتبط بها من حروب وصراعات وفوضى ساهمت في تغذيه الإرهاب وانتشاره، وفي جعل عدة بلدانٍ بؤرَ نزاعات مسلحة وخلافات سياسية وطائفية لا تنطفئ نيرانها! من المسؤول عن تلك الصراعات التي حرقت أوطاناً، وجعلتها في خانة الدول الأكثر اضطراباً، والأقل أمناً واستقراراً؟

ألا ينبغي التساؤل الآن حول المتسببين الحقيقيين في تلك المحن والمآسي؟ في الولايات المتحدة هناك قضاء مستقل وعادل وديمقراطية حقيقية وقيم إنسانية راسخة.. لذا فعلى أميركا أن تلتفت أيضاً لبعض القضايا الداخلية والخارجية الأخرى المهمة، قبل أن تنشغل بالتنظير حول حقوق الإنسان، وتتهم دولاً أخرى في قضايا ذات صلة باحترام حقوق الإنسان وحصانته وحمايته من الحروب والفقر والمجاعة!

*كاتب سعودي