اهتمت الأوساط الشعبية والسياسية والإعلامية في كل من روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية بالمقابلة التلفزيونية التي أجراها مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الإعلاميُّ الأميركي الشهير «تاكر كارلسون»، قبل أيام من الآن. ومما أثار الانتباه في هذه المقابلة قدرة الرئيس الروسي غير العادية على سرد الأحداث التاريخية الموثقة، والتي يعود بعضها إلى عام 862 عند بدأ تأسيس دولة روسيا، والتي مرت بمرحلتين تاريخيتين هامتين، أولاهما بدأت في عام 882 حين ضمت روسيا مركزين للقوة هما «كييف» و«نوفجرود»، وثانيتهما كانت بدايتها في عام 988 عندما اعتنقت الدولة الروسية حينَها الديانةَ المسيحيةَ الشرقية أو ما سيعرف بالأرثوذكسية.

وتؤكد المرحلتان، حسب الشرح الذي قدمه الرئيس بوتين، على وحدة الشعب الروسي من ناحية الإقليم واللغة والدين والثقافة، كما تبين بأن العاصمة الأوكرانية الحالية «كييف» كانت جزءاً من ذلك التاريخ، وبأن أوكرانيا تأسست فعلياً أثناء الحقبة السوفييتية. لكن عند انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991 وافقت روسيا على انفصال أوكرانيا كدولة مستقلة، وذلك في رسالة أرادت من خلالها موسكو أن تؤكد للدول الغربية رغبتَها في التعايش السلمي والتعاون من أجل مستقبل أفضل لجميع شعوب أوروبا والعالم.

لكن ما حدث عقب عام 1991 كان مخالفاً للتوقعات الروسية، وذلك في تطورين جذريين، أولهما عندما قام حلف «الناتو» بتوسيع حدوده ليضم دولاً كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق أو أعضاء في حلف «وارسو» الذي سقط في نهاية الحرب الباردة. فحتى عام 1982 كان «الناتو» يضم 16 دولة بقيادة الولايات المتحدة، لكن بنهاية عام 2020 كان الحلف قد أضاف 14 دولة لعضويته، وكلها إما كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي أو كانت أعضاء في حلف «وارسو» أو أجزاء من دول أوروبا الشرقية التي كانت تدين بالولاء للاتحاد السوفييتي وتنضوي تحت حلف «وارسو» بقيادته. والتطور الثاني كان نشر الولايات المتحدة نظامَ ردع صاروخي في دول حلف «الناتو»، الأمر الذي اعتبرته روسيا تهديداً مباشراً لأمنها القومي، خاصةً عندما رفضت واشنطن اقتراحَ موسكو نشر نظام مماثل، لكن بشراكة روسية أميركية أوروبية.

وكان الرد الروسي على نظام صواريخ «الناتو» هو تطوير الصواريخ فرط الصوتية التي تستطيع التغلب على النظام الأوروبي وفقاً لقول الرئيس الروسي. أما «القشة التي قصمت ظهر البعير»، حسب ما يشير إليه حديث «بوتين» في تلك المقابلة، فكانت إعلان حلف «الناتو» في عام 2008 أن باب عضويته مفتوح أمام كل من جورجيا وأوكرانيا، فتلت ذلك تهديدات أوكرانية تتعلق بشبه جزيرة القرم، ثم الحرب على إقليم «دونباس» في عام 2014، والتي أعقبها توقيع اتفاقية «مينسك» لحماية مناطق الإقليم، لكن كييف أعلنت تحللها منها لاحقاً.

وكان كل ذلك، حسب الرئيس الروسي، بدعم من الولايات المتحدة التي دفعت الوضعَ إلى خطوط لا يمكن أن تقبلها روسيا. كل تلك الأحداث التاريخية والسياسية التي ذكرها الرئيس بوتين، وتحديداً بعد عام 1991، تعكس بوضوح المخاوف الأمنية الروسية، والتي أدت في نهاية المطاف إلى اندلاع الأزمة الحالية بين روسيا وأوكرانيا. وخلاصة القول، إن تلك المقابلة التلفزيونية كانت فرصة حقيقية لكي يَسمع العالمُ وجهةَ النظر الروسية إزاء الأزمة الحالية التي تجاوزت تداعياتُها روسيا وأوكرانيا لتصل إلى أغلب دول العالم.

*باحث إماراتي