سقطت منذ أيام مدينة أفدييفكا بجمهورية دونيتسك بعد قتالٍ ضارٍ دام حوالي 10 أشهر ليعزز هذا السقوط النموذج الذي آلت إليه الحرب في أوكرانيا، والتي تجاوز عمرها الآن السنتين. ونذكر كيف أن سيناريوهات تطور الحرب قد مالت في البداية إلى ترجيح احتمالات نصر روسي سريع بتكلفة معقولة، بسبب الخلل الواضح في ميزان القوى بين روسيا وأوكرانيا.

ومع تبلور الدعم الغربي القوي لأوكرانيا، بأبعاده المختلفة، بقيادة الولايات المتحدة، أصبح واضحاً أن هذا السيناريو قد استُبعد لحساب تفكير جديد وصل إلى حد الحديث عن تراجع روسي محتمل.

ولم يكن هذا السيناريو يتسق مع حقيقة أن روسيا دولة نووية، بما يعني أنه حتى لو حدث الاحتمال غير المتوقع، بظهور بوادر هزيمة روسية في الحرب التقليدية الدائرة، فإن العامل النووي سوف يدخل في الاعتبار، بمعنى اضطرار روسيا للجوء لسلاحها النووي. وهو سيناريو لم يعد مستحيلاً على ضوء التطور الكبير في الأسلحة النووية التكتيكية الذي حد كثيراً من قدرتها التدميرية.

ورغم هذا كان واضحاً أن التحالف الغربي المساند لأوكرانيا تراوده الأحلام بإمكانية هزيمة روسيا، على ضوء نجاح أوكرانيا في توظيف الدعم الغربي الهائل في استرداد بعض الأراضي التي مهما كانت نسبتها ضئيلة فإن استردادها كان يعني رمزياً إمكانيةَ تحرير الأراضي التي ضمتها روسيا!

كذلك عُلقت آمالٌ كبار على الهجوم الأوكراني المضاد الذي لم يتمكن رغم تحقيق بعض الإنجاز من إحداث تغيير نوعي في مسار الحرب، بل أظهر قدرةَ روسيا على تغيير تكتيكاتها بما يلائم مواجهة هذا الهجوم المضاد، وأصبح واضحاً مع مرور الوقت أن التعويل عليه لقلب ميزان القوى غير وارد، وأن الصراع يتجه لحالة من «التجمد»، بمعنى عدم قدرة أي من طرفيه على الحسم في ظل المعطيات القائمة، بحيث لا يمكن أن يَحدث تغيير نوعي في مسار الحرب إلا بدخول متغيرات جديدة كحدوث تحولات داخلية لدى أحد الطرفين تؤثر إما على مدى التمسك بأهدافها أو القدرة على تحقيقها.وبالمقابل بدا أن التطورات اللاحقة قد أسست لنموذج جديد للحرب، وهو نموذج يتميز بالتحولات البطيئة بتكلفة عالية لصالح روسيا، وقد نذكر معركة آزوف التي دامت حوالي شهر ونصف الشهر، من أبريل إلى مايو 2022، وانتهت بانتصار القوات الروسية.

وفي مايو 2023 تكرر نفس النموذج في معركة باخموت التي دامت أكثر من سنة ونصف، من أغسطس 2022 إلى مايو 2023، وقد انتهت كذلك بانتصار القوات الروسية، وبانتهائها أصبح واضحاً أن الدعم الغربي عاجز عن إحداث تغيير في مسار الحرب. وفي حينه كتبتُ على هذه الصفحة في 30 مايو 2023 ما يفيد بأن نموذج «التجمد» يتحول إلى نموذج حرب بطيئة تتحرك تدريجياً لصالح روسيا، وأن هذا التطور يُفترض أن يعزز التوجهات لطرح تسوية مهما كانت الصعوبات التي تعترض هذا الطرح.

ومع ذلك استمر الإصرار على مواصلة الصراع، وها هو سقوط أفدييفكا يعزز هذا النموذج، ويضاف إلى هذا التطوراتُ الداخليةُ في أوكرانيا التي اقتضت تغيير القائد العام للقوات المسلحة، ومشكلات استمرار التمويل الأميركي للمجهود الحربي الأوكراني، ناهيك باحتمال فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية لهذا العام، وهو المعروف بموقفه من الحرب. وتعني كل هذه التطورات أن سيناريو انتهاء الحرب في وقت ليس بالبعيد قد أصبح مطروحاً.

*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة