العدمية فلسفة، ويذهب بعض المتخصصين إلى أنها لا تتجاوز آراء فلسفية متناثرة، لكنها في المحصلة موجودة كاعتقاد يؤمن به البعض ويتبناه في حياته، ومن ثم يصبح بوصلتهم في توجهاتهم وقراراتهم وأنواع سلوكهم على اختلافها.
والعدمية الأخلاقية هي أكثر أنواع العدمية جدلاً وسوداوية، إنها فلسفة عدمية بالمعنى الحقيقي للعدمية، إذ تفترض النظرة الفوقية في مجال الأخلاق، وذلك لقولها بأن الأخلاق لا وجود لها كشيء ملازم في الواقع الموضوعي المجرد من العواطف، ومن ثم فلا يوجد فرق بين الأخلاق الحميدة والأخلاق الذميمة سوى في المنظور البشري. وعلى سبيل المثال يقول العدمي، المؤمن بالعدمية الأخلاقية، إن قتل شخص ما لأي سبب كان، ليس خطأً بطبيعته، ويجادل الغلاة من العدميين بعدم وجود أي أخلاق على الإطلاق، ولكن إذا كان البناء الأخلاقي موجوداً، فهو – حسب رأيهم العدمي- بناء بشري موضوع ومصطنع، حيث إن الأخلاق تدخل في نسبية البشر وحسب ما يراه الناس على أنه «أخلاقي» أو «غير أخلاقي». وعلى سبيل المثال أيضاً إذا قَتل شخصٌ ما شخصاً آخرَ، فقد يجادل ذلك العدمي بأن القتل ليس أمراً سيئاً في حد ذاته، أو سيئاً بمعزل عن معتقداتنا الأخلاقية، وذلك بسبب الطريقة التي يتم بها بناء الأخلاق باعتبارها ثنائية بدائية!
وما نراه يحدث في قطاع غزة، يكاد يصل إلى ما يتجاوز «العدمية الأخلاقية» في استهداف المدنيين بالجملة، وحصد أرواح البشر بدون أي مقياس لأدنى معايير أخلاقية وإنسانية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن القتل نفسه خطأ وهو إجماع إنساني بالفطرة منذ أول جريمة قتل حصلت في التاريخ المعروف لدى البشر.
القصف والقنص والاستهداف العشوائي لكتل بشرية محاصرة بالكامل، وحرمانها من أدنى متطلبات العيش حد الموت جوعاً وبرداً وعطشاً، ثم رميها بالنيران كفرائس مستباحة.. هو جوهر تلك الفكرة العدمية، هو إعدام جماعي غير مبرر بأي معيار أخلاقي ولا إنساني ولا يمكن تبريره من الأساس.
إن المحاولات السياسية الجادة، والمرتبطة بالمناشدات الدولية والتدخلات والوساطات الإقليمية والعالمية، والمؤتمرات الأممية في كل العواصم العالمية، ناهيك عن الإدانات والاحتجاجات.. هي في المقابل ما يمثل الحد الأدنى المطلوب من الإنسانية بكل منظوماتها الأخلاقية والمدنية، لكنها تواجه «عدمية» مدججة بالقوة المسلحة ولا ترى في كل تلك المنظومات القيمية أي قيمة!
إن اعتبار قيمة «الإنسان» تساوي أقل من صفر حتى، هي فكرة مرعبة تتجاوز المفهوم العدمي نفسه، والاعتياد عليها وتمريرها وتسكينها ثم توطينها يجعل منها «سياسة» مقبولة في المستقبل.
وهنا تتشكل معضلة نراها ماثلةً أمامنا في الشرق الأوسط اليوم: فنحن الآن أمام حالة عدمية سياسية لا تتجاوب مع أي مبادرات سياسية بالمطلق، وهذا يعني أن العنف سيملأ هذا الفراغ السياسي المدفوع بعدمية سياسية مطلقة لا يوقفها أحد، ولا توجد إرادة دولية لدى القوى المؤثرة لإيقافها.
والأخطر في الموضوع برمته، أن العدمية لا تَفهم حدودَ الجغرافيا، وهي تحمل عدوى الانتشار إن توطنت واعتادتها الأنفسُ، مما يجعلها خطراً على الأمن العالمي ما لم يضع لها العالَم حداً اليوم وعلى الفور.

*كاتب أردني مقيم في بلجيكا