تتخوف دول «الناتو» خاصة فرنسا وألمانيا مما هو قادم في الساحة الحالية بكل تحولاتها. هذه الدول تراقب عن كثب ما يطرحه الرئيسان جو بايدن، والسابق ترامب من تصريحات تخص مستقبل العلاقات الأميركية الأوروبية في نطاق «الناتو»، أو تلك التي تتعلق بإجراءات، أمنية واستراتيجية جديدة ترتبط بسياسات الدفاع، والأمن الاستراتيجي.

ويبدو أن ثمة مخاطر كبرى تعلن عن نفسها خلال الفترة المقبلة خاصة في حال عودة ترامب مجدداً إلى سدة الحكم، لهذا أكدت دول «الناتو» الرئيسة على تبني إجراءات سواء منفردة، أو في إطار نطاقات الحلف، ما قد يعطي دلالات مهمة حول هواجس ما هو قادم من خيارات وبدائل، بل وسيناريوهات التعامل، وهو ما تتحسب من تأثيراته دول «الناتو»، التي لا تعمل في نطاقات أوروبية فقط بل تمتد إلى بؤر ومناطق الصراعات المتعددة، حيث تحاول الانتقال من المخاطر الآنية إلى التحديات المستقبلية التي ستدفع دول الحلف للتعامل، وعدم ترقب الدعم الأميركي إلا في استراتيجية المواجهة الكبرى، مع الإقرار بوجود دور مشترك، ومهم بالنسبة للجانبين من خلال الأطر واستراتيجيات التنسيق التي توضع في نطاق مشترك وكامل، وهو ما يؤكد أهمية نظر دول الحلف في التعامل وعدم انتظار المخاطر الرئيسة التي تعمل عليها الدول الأعضاء في النطاق الحيوي الاستراتيجي التي تتحرك فيه مع التخوف من تغييرات دراماتيكية قد تعصف باستقرار الحلف في الوقت الراهن خاصة مع توقع استمرار ارتدادات الحرب الروسية الأوكرانية، ومخاوف مع بعد توسع نطاق الحلف والتدخلات الأميركية. لهذا فإن دول الحلف تتابع ما يجري سياسياً في الداخل الأميركي، وتتوجس من أي تغييرات حقيقية بشأن ما ستسفر عنه نتائج الانتخابات الأميركية التي قد تطرح مقاربات تمس ليس فقط سياسات «الناتو»، بل أيضاً استقراره في إطار خريطة التحديات المستجدة.

ولهذا أقدمت ألمانيا على تخصيص 2%من ناتجها المحلي الإجمالي للمسائل الدفاعية، بل إنها تجاوزت هذا السقف لتصل إلى 2.1%، ما يؤكد هذا التوجه التي ستمضي فيه دول الناتو بأكملها بدليل أن 18 دولة من إجمالي31 دولة عضو في الحلف، خصصت 2% من ناتجها المحلي الإجمالي للدفاع، كما ستستثمر الدول الأوروبية كافة ما لا يقل عن 380 مليار دولار للدفاع العام الحالي ما يؤكد أن دول «الناتو» بات لديها يقين سياسي واستراتيجي مما هو قادم من تحولات في هيكلية التحديات التي يمكن أن تعلن عنها دول الحلف في المديين المتوسط والطويل الأجل، وبدليل ما تم اقراره مؤخراً عبر تعزيز صيغة الدفاع الأوروبي المشترك بصيغة فرنسية معدلة وشاملة لحجم التهديدات المحتملة، وهي تحدد وتشير إلى المطلوب من خلال تطوير القدرات الدفاعية الأوروبية الاستراتيجية ذات الأهداف الرئيسة ليس لاستبدالها محل الحلف الأطلنطي بل لتكون إلى جانبه ومكملة لما يجرى من تطورات. ومن ثم فإن دول «الناتو» ستظل تراقب ما يجري من تحولات حقيقية متعلقة بما هو قادم.

وفي كل الأحوال، فإن عودة الرئيس السابق ترامب إلى البيت الأبيض تظل احتمالاً وارداً مما سيتطلب رد فعل وتصور مسبق للتعامل مع أي تطور مفصلي، ومع رئيس محتمل يكرر علانية بعدم التزامه بالبند الخامس من معاهدة الأطلنطي الذي ينص على أن أي هجوم أو عدوان مسلح ضد عضو من أعضاء الحلف يعدّ عدواناً عليهم جميعاً.

ولهذا فإن ما أعلنه الأمين العام لحلف شمال الأطلسي «ناتو» ينس ستولتنبرغ يبدو صحيحاً ومحقاً في ما يطرحه من أن 18 من أعضاء الحلف ال31 هم على مسار تحقيق الهدف المحدد للإنفاق الدفاعي، وذلك بعدما هدد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب بتشجيع روسيا على مهاجمة دول الحلف المتخلفة عن سداد التزاماتها المالية بل، ووكرر «ستولتنبرغ» تحذيره لترامب بعدم تقويض ضمانة الأمن الجماعي لدول «الناتو» والقائمة على أن يدافع جميع الأعضاء عن أي عضو آخر إذا تعرض لهجوم، وارتباطاً بهذا وقعت ألمانيا وفرنسا و13 عضواً آخر في حلف شمال الأطلسي خطاب نوايا لإطلاق «تحالف دفاع جوي» للمساعدة في تعزيز قدرات أوكرانيا على حماية نفسها.

وبرغم ما يجري أميركياً، فإن العديد من دول «الناتو» حريصة على إبقاء الولايات المتحدة في الحلف باعتباره يظل أمراً أساسياً لردع التهديد الروسي، لكنهم غير متخوفين من تهديدات ترامب، على اعتبار أن التحالف بقي سالماً خلال ولايته الرئاسية الأولى ما يجعل هذا السيناريو مطروحاً، وبدون مخاوف، أو هواجس ربما يكون مبالغ فيها برغم ما يتردد من تزايد التحذيرات من أن الرئيس الروسي بوتين قد يسعى لاستهداف أعضاء في الحلف إذا خسرت أوكرانيا الحرب، ولهذا فإن الضامن الوحيد لأمن أوروبا يظل التزام الولايات المتحدة تجاه الناتو، مع عدم وجود بديل لقواتها البالغ عددها 80 ألف جندي في القارة، وحجم وسرعة نشر العتاد الحربي.

يبقى التأكيد على أن إدارة الرئيس جو بايدن قد قامت بالكثير لاستعادة العلاقات الأميركية الأوروبية داخل الناتو، وقيادة الرد على غزو روسيا لأوكرانيا، ومع ذلك سيظل التركيز الرئيس للولايات المتحدة منصباً على الصين، ومع التوقع بتراجع التزام الولايات المتحدة تجاه أمن أوروبا بصرف النظر عن الرئيس القادم سواء كان ترامب أو بايدن.

*أكاديمي متخصص في الشؤون الاستراتيجية.