عُقد في العاصمة الفرنسية يوم 26 فبراير الماضي مؤتمر بدعوة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بهدف تأكيد الدعم لأوكرانيا. وحضر المؤتمر ممثلو 27 دولة ما بين رؤساء دول وحكومات ومستويات تمثيلية أقل. وفي نهاية المؤتمر أدلى ماكرون بتصريحات أثارت جدلاً هائلاً، حيث صرح في ختام المؤتمر بما يفيد ضرورة عمل كل شيء حتى لا تتمكن روسيا من الفوز في الحرب، وأن المؤتمر لم يشهد إجماعاً على إرسال قوات إلى أوكرانيا، لكن الموقف يتحرك، ولا يتعين استبعاد أي شيء من أجل تحقيق هذا الهدف. وكدفاع استباقي عن وجهة النظر هذه التي لا تستبعد إرسالَ التحالف قواتٍ لدعم أوكرانيا، لفت ماكرون إلى أن مَن يعارضون هذه الفكرة هم أنفسهم الذين كانوا يعارضون إرسال الدبابات والطائرات الحديثة والصواريخ المتقدمة قبل عامين.
وقد استبعدتُ أن تكون هذه التصريحات زلة لسان، لأن ماكرون قدّم شرحاً متكاملاً لوجهة نظره هذه، لكني تصورت للوهلة الأولى أنني لم أستمع لكلماته جيداً، أو أن ترجمتَها لم تكن دقيقة، غير أن العاصفة السياسية التي أعقبتها على كافة المستويات داخلياً وخارجياً أكدت لي أن ما وصلني هو صحيح كلماته. فقد واجهت التصريحات رفضاً تاماً من جميع ألوان الطيف السياسي في فرنسا، بل ومن الحلفاء الرئيسيين لماكرون في ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا، ناهيك بالدول الأوروبية التي تتحفظ أصلاً على مساندة أوكرانيا، وتدعو لتسوية سياسية، وقبل ذلك كله لم يحظ هذا الموقف بتأييد الولايات المتحدة زعيمة معسكر الدعم الغربي لأوكرانيا.
كان مثار دهشتي من هذه التصريحات أنها أعطت انطباعاً بتغيير جذري في السياسة الغربية لدعم أوكرانيا في الحرب ضد روسيا، والقائمة على تقديم أقصى حد ممكن من الدعم غير المباشر لأوكرانيا، أي دعمها بالمال والسلاح وكل الخدمات المعلوماتية والتدريبية الممكنة. ومع أن التوقيت قد يكون مناسباً لإحداث تغيير في هذه السياسة بسبب الإنجازات الأخيرة للقوات الروسية، إلا أن للتغيير أصوله وقواعده، وأولها أنه لا ينبغي أن يتم من خلال مؤتمر صحفي وإنما عن طريق الآليات الرسمية كمؤتمر قمة لحلف الأطلسي تكون له صلاحية إحداث تغيير كهذا. وبعبارة أخرى فإن المؤتمر الذي دعت إليه فرنسا وصرح رئيسها في أعقابه بتلك التصريحات ليس الجهة المخولة بإعلان تغيير جذري في السياسة، ناهيك بأنه شهد خلافات في الرأي كما أوضح ماكرون نفسه، مما يفيد بأن التغيير الذي أشار إليه ليس موضع إجماع كما ذكر، ولو كان لطرف في التحالف الغربي أن يتقدم بمبادرة في صدد تقوية قدرات أوكرانيا فلن يكون فرنسا بالتأكيد التي تحتل المرتبة 14 في دعم أوكرانيا مالياً.
ويفسر الرفض الشامل لتصريحات ماكرون محاولةَ وزير خارجيته اللاحقة تصويرَ أن الأمر قد لا يتجاوز بعض العمليات الفنية لنزع الألغام أو العمليات السيبرانية وغيرها مما قد يتطلب وجوداً محدوداً على الأراضي الأوكرانية.

*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة