الأفلام الوثائقية فن صحفي أكثر منه «سينمائي» أو «تلفزيوني»، أو هذه على الأقل هي وجهة نظر صحفي ينحاز لمهنته.
تجذبني تلك الوثائقيات التي تكشف المعتم من التاريخ، تاريخ الأشخاص أو الأحداث، أو حتى المعتم من قصص مشهورة للرأي العام.
في عام 2022، تابعت تسجيلاً وثائقياً عن ميخائيل غورباتشوف، آخر رئيس للاتحاد السوفييتي. وكان غورباتشوف يوثق بالصوت والصورة حياتَه في مراحلها الأخيرة داخل بيته الواسع، لكن الموحش أيضاً، مع مديرة منزله ومساعدته وطباخه. منتجو الفيلم لم يعتمدوا تقنيات عالية في التصوير لغايات الإثارة، بل كانت التقنيات فنية محترفة في استخدام درجات الظل والضوء، مثل تلك اللوحات الزيتية الشهيرة التي كان فنانوها يبدعون في إدارة لعبة الظلال.
كان غورباتشوف قد بلغ من العمر عتياً، كما بدا لنا في ذلك التسجيل المصور، وكان يمشي بتثاقل وهو يخطو خطواته الأخيرة نحو باب الخروج من هذا العالم. تحدث بحزن هادئ عن مفاصل عديدة في حياته الشخصية والسياسية، خاصة بعد أن افتقد مؤنستَه وزوجته التي غادرت قبله. وحاول أن يوضح تلك النقطة المفصلية التي غيّرت وجهَ العالم في عام 1989 وفيها أنهى الحرب الباردة.
كان غورباتشوف آخر رئيس للاتحاد السوفييتي السابق، وكان سكرتير الحزب الشيوعي الذي هيمن على نصف العالم مقابل الولايات المتحدة المهيمنة على الطرف الآخر.
كل ما فعله غورباتشوف أنه خلق الصدع في الجدار الصلب، وذلك حين صدَع بالكلمات القوية غير المعهودة التي تحولت إلى سياسات. وصل غورباتشوف إلى السلطة في عام 1985 حاملاً معه إصلاحات جذرية عرفت باسم البيروسترويكا (إعادة البناء)، والغلاسنوست (الانفتاح).
كانت البيروسترويكا سياسة تهدف إلى تحرير الاقتصاد من القيود المركزية، بينما سعت سياسة الغلاسنوست إلى زيادة الشفافية والحرية السياسية وفتح حرية التعبير في بلاد ضخمة كان الرأي فيها يساوي حياة الإنسان.
أدت تلك الإصلاحات إلى انفتاح سياسي، وتم السماح بإنشاء أحزاب سياسية جديدة، وبتخفيف الرقابة على الإعلام.
ومن ناحية اقتصادية تم السماح ببعض أشكال الملكية الخاصة، وبإعطاء المزيد من الحرية للمؤسسات في تحديد أسعارها وإنتاجها.
لكن هذه الإصلاحات التي أطلقها غورباتشوف أدت أيضاً إلى فوضى سياسية وصراعات بين الإصلاحيين والمحافظين، وإلى ظهور حركات قومية انفصالية في جمهوريات الاتحاد السوفييتي. وبالطبع فقد كان من نتائجها أيضاً حدوث أزمة اقتصادية تمثلت جزئياً في تفاقم نقص السلع الاستهلاكية، وارتفاع معدلات التضخم.
ثم جاءت اللحظة الحاسمة والمتوقعة، في عام 1991، حين انهار الاتحاد السوفييتي، بعد محاولة انقلاب فاشلة ضد الرئيس غورباتشوف.
في الفيلم الذي حمل اسماً يتضمّن كثيراً من المفارقات، أي «جنة غورباتشوف»، كان التقاط المفارقات لعبةَ مخرج الفيلم المفضلة في التصوير.
وبعبارة تملؤها الحكمة والخبرة المعتقة، يقول غورباتشوف الطاعن في السن، وهو يمشي في أحد الممرات بصعوبة: «التاريخ متقلب المزاج». كان يقولها وهو يدير ظهره لصورة بوتين على الشاشة خلفه. وفي مشهد آخر، يتحدث مع مساعدة له ويسألها: هل الحياة في الخارج لا تزال مستمرة؟
غورباتشوف..كان يدندن في بيته الكبير والموحش الغارق في الوحدة أغنيةً «أوكرانية» تنتهي قفلتها بعبارة «الشباب لن يعود أبداً.. لن يعود أبداً».
نعم.. التاريخ متقلب المزاج.. متقلب جداً.

*كاتب أردني مقيم في بلجيكا