لم يختف الرئيس الأميركي السابق من الساحة السياسية الأميركية بعد هزيمته في الانتخابات الرئاسية لعام 2020، لكن بدا في بعض الأوقات أن عودته مجدداً للتنافس على الفوز بالرئاسة في انتخابات هذا العام قد تكون محاطةً بصعوبات جسيمة أو حتى مستحيلة بسبب ما وُجه له من اتهامات بمخالفات قانونية وسياسية ومالية كان لبعضها على الأقل أساس قوي. لكن ترامب، وقد احتفظ بقاعدة واسعة وقوية من المؤيدين، أخذ يتغلب على هذه الصعوبات واحدةً بعد الأخرى، وصولاً إلى حسم المحكمة العليا لأحقيته في الترشح للانتخابات. صحيح أن ثمة صعوبات ما زالت قائمة، لكن الأمور وصلت بعد الثلاثاء الماضي، المعروف ب«الثلاثاء الكبير»، إلى حسم ترشحه عن الحزب الجمهوري في الانتخابات القادمة، رغم أنه لم يُكمل بعد الأصوات المطلوبة لفوزه بترشيح الحزب، لكن الأمور قد حُسِمت بالتأكيد لصالحه، ورغم أن منافسته الرئيسية نيكي هيلي لم تكن نداً له في أي وقت من الأوقات إلا أن انسحابها من السباق الرئاسي عقب نتائج «الثلاثاء الكبير» بعد أن كانت ترفض ذلك، مؤشرٌ على حسم السباق الرئاسي داخل الحزب الجمهوري. وعلى الرغم من أن هذا الحسم لا يعني بالضرورة أن ترامب هو الرئيس الأميركي القادم حتى على الرغم من تراجع شعبية الرئيس الحالي مقارنةً به، وذلك لأن الشهور المتبقية على إجراء الانتخابات يمكن أن تشهد تطورات عديدة ومهمة تؤثر في مجريات الأمور، إلا أن الجميع داخل الولايات المتحدة وخارجها قد بدأوا في التحسب لعودة ترامب رئيساً، وذلك نظراً لما عرف عنه من أفكار يمكن أن تكون لها تداعيات جذرية على قضايا دولية بالغة الأهمية والدلالة بالنسبة لمستقبل البنية القيادية للنظام الدولي لعل أهمها ما يتعلق بالحرب في أوكرانيا.
ومن المعروف أن تلك الحرب الدائرة هناك هي جزء من عملية تاريخية لتأكيد انتقال نموذج القيادة في النظام الدولي من الأحادية الأميركية القطبية، التي كانت تعني انفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم، بعد تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991، ومع عودة الحضور الروسي في الساحة الدولية بقوة مع رئاسة بوتين اعتباراً من عام 2000 واستمرار الصعود الصيني الدؤوب في الساحة الدولية، بدا أن مقوماتٍ لتعدديةٍ قطبية جديدة قد بدأت في التشكل. غير أن السلوك الأميركي بدا من ناحية أخرى ممانعاً لهذا التطور ومحاولاً إجهاضه باستكمال تطويق روسيا بحلف شمال الأطلسي، وصولاً لأوكرانيا ذات الدلالة التاريخية الخاصة بالنسبة لروسيا. وقد حاولت روسيا في البداية مواجهةَ هذا السلوك بآليات دبلوماسية، كما بدا في اتفاقية مينسك 2015. غير أن الإصرار الأميركي على تطويق روسيا تواصل فاندفعت لعمليتها العسكرية في أوكرانيا التي ألقى التحالف الغربي الأطلسي بثقله فيها محاولاً هزيمةَ روسيا التي صمدت حتى الآن، بل بدأت تحقق تقدماً واضحاً، وبالذات مع تنامي المعارضة الداخلية في الولايات المتحدة وأوروبا لاستمرار النهج الحالي لدعم أوكرانيا وتأثير ذلك على هذا الدعم. ومع ذلك فإن الغرب ما زال متمسكاً بنهجه، بل وبدأ بعضُ قادته يطرحون فكرةَ التدخل المباشر، وهو ما يعرض العالم لمخاطر حقيقية، ومن هنا التداعيات المهمة لاحتمال عودة ترامب للرئاسة، وهو الذي يحمل أفكاراً لإنهاء الحرب. ولو تحقق هذا فسوف يكون العالم إزاء حقبة جديدة تحتاج إمعان نظر في ملامحها وتدبراً في كيفية التعامل معها.


*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة