لعب المثقف الخليجي دوراً محورياً في مسارات التاريخ السياسي والفكري للمنطقة منذ الاستقلال وليومنا هذا، وإن كان ذلك الدور قد تعرض لتحولات جذرية مع حلول مطلع القرن الواحد والعشرين، وبروز الصراع الفكري والسياسي بين الاستعمار الناعم وحركات التحرّر الذاتي من التبعية الثقافية الكلية لتاريخ وحاضر الأمتين العربية والإسلامية، والانسياق نحو الاندماج مع ثقافات ليس لها جذور في الثقافة المحلية وقد لا ترتقي أن تكون معرفة تليق بالمثقف الإنساني، لتشوه توجهات بعض كبار الذين ندعوهم مثقفين اليوم وهم الذين هلّلوا بالأمس لتعرض دولة خليجية لغزو غاشم، وآخرون يتمنون علانيةً زوال النعمة عن غيرهم.
ولهذا فالمثقف الخليجي والعربي في حيرة من أمره بين التنظير والفعل، ولا يزال يفكر بطريقة رجال عصور التنوير في أوروبا ويرتبط بأيديولوجيات تعبوية تقيد نظرته الإنسانية للقضايا، ويعتقد أن دور المثقف هو نقل وتقديم وشرح وتفصيل المعرفة التي اكتسبها من الثقافات الأخرى، والبعض الآخر يعتقد بأن المثقف هو فقط الفرد الملتزم بقضايا مجتمعه وعصره، ولديه إطلاع واسع في شتى العلوم، ولا بد من أن يمثل طبقة معينة وأن يكون له مستوى تعليمي معين، وهو في الحقيقة وعياً ملفقاً تجسده نظرة المثقف للسلطة وأهمية التحرر من كل القيود التراثية ونقد التراث الديني، ولكن ما الذي يعود به كل ذلك من منفعة إيجابية تلامس تطور المجتمع؟
فقد وجد المثقف الخليجي نفسه مضطراً لاتخاذ موقف تجاه القضايا والانتماءات الأيديولوجية المختلفة، في ظل الانتشار الواسع للحركات والأفكار القومية واليسارية والليبرالية والإسلاموية، وغيرها من الأفكار والاتجاهات وثقافة خارجة عن المجتمع الحضري أو منغمسة فيه تماماً، والتشدّق بخصائص وفضائل تياره الثقافي في مجتمع مدني منفتح ونظام فكري منقفل حوّل الثقافة إلى مادة استهلاكية، وهي نكبة الفكر الخليجي اليوم والمثقف العربي على العموم.
إن المثقف القومي أو القبلي أو الطبقي الذي يعتقد أن القطيعة مع الماضي هي جوهر الثقافة هو أحد لبنات الأصولية الثقافية، وبالتالي يسمح لسيطرة مفهوم التفرّد الثقافي الغربي في اللاوعي الجمعي للإنسان الخليجي، ولا أعتقد أن وظيفة الثقافة هي الضبط الاجتماعي والتكييف الجمعي لفكر وأفكار المجتمع وإلّا أصبحت نوعاً آخر من التضليل الممنهج، وهو إقصاء فكري قد ينشر ثقافة الكراهية، ولربما ينتهي كذلك بتزييف الوعي، ويقود إلى اشتراكية التوجهات الفكرية والقناعات والميول واضمحلال العقل الرافض لشعور عقدة أهمية اللحاق بالغرب، فلا توجد في الواقع ثقافة عليا وثقافة سفلى ودرجات ثقافية تفرّق الثقافات البشرية لتصنّف ثقافة بأنها راقية وعالمية، وأخرى بأنها بدائية أو متوسطة الجودة فقط لكونها لا تعبر عن قيم وقناعات فئة معينة من البشر، وإن حدث ذلك يجب أن نتحدث عن الهزيمة الثقافية للأمم وهي المدخل لكل الهزائم الأخرى، والتي تمهد الطريق لتبعية الطوعية واعتباطية تمجيد ما تنتجه ثقافة مقابل ما تنتجه ثقافة أخرى.
ولكي نعيد صياغة مفهوم الثقافة والمثقف في الخليج العربي الكبير فلا بد من أن تكون لنا بصمة واضحة فيما نعلمه للأجيال المستقبلية، وعدم التكرار في الأنماط التعليمية وعدم تغذية التيارات التي تنادي بالانسلاخ من هويتنا، ولا ننخدع بمقولة، إن من وظيفة الثقافة هي جعل القناعات متقاربة، بل إن نستوعب أن للثقافة أوجهاً وممارسات عديدة، وهي داخل الإنسان وخارجه وقد تكون هروباً من الانطباعات السائدة، وأن دور المثقف هو تمكين مجتمعه من العبور لشواطئ أنسنة الفعل الثقافي وإدارة متكاملة للإنسان والابتعاد عن البيروقراطية الثقافية، والمثقف قد يكون مزارعاً أو صائد أسماك أو عاطلاً عن العمل وغير حاصل على مؤهل علمي تقليدي ولكنه مثقف، وهو طرح مرفوض من سدنة المعبد الثقافي بعد انفراط عقد الأيديولوجيات والمثاليات الكبرى وتراجع دور المؤسسات الحكومية والمجتمع بفعل العولمة التكنولوجية، وتعدد الأصوات وتنوع الخطابات بعيداً عن السرديات الشمولية، مع تصاعد المد الليبرالي الشعبي في الأوساط الثقافية خارج شوارع ومقاهي وصالونات ومراكز وملتقيات الثقافة المخملية والنخب الاستنساخية.
*كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات