بينما يتساءل «الديمقراطيون» في حيرة حول أسباب تراجع شعبية الرئيس جو بايدن، ربما من المفيد النظر إلى السياق العالمي، لأن بايدن أفضل حالاً في الحقيقة من معظم الزعماء الغربيين.

ففي استطلاع «مورنينج كونسلت» الذي يقيس معدلات التأييد الشعبي للزعماء العالميين، حصل بايدن على نتائج أفضل من زعماء كندا وبريطانيا وألمانيا وإسبانيا وبلجيكا وآيرلندا والسويد والنمسا وهولندا والنرويج وفرنسا واليابان. في أميركا، غالباً ما نعزو عدم شعبية بايدن إلى سنه، وهذا بكل تأكيد جزء من الأسباب. غير أن الزعماء الشباب في الخارج أقل شعبية منه: ففي بريطانيا، لا يكف الناس عن انتقاد رئيس الوزراء البالغ 43 عاماً، ريشي سوناك، بسبب ما يرونه «أقل خبرة في التعامل مع الأوقات العصيبة» حسيب ما أشارت إليه مجلة «نيو ستيتسمان».

والواقع أن أداء الولايات المتحدة أحسن اقتصادياً من معظم البلدان الأخرى، ولكن التحدي الذي يواجهه بايدن لا يزال هو أنه يمثّل المؤسسة في وقت تسود فيه شكوك عميقة عبر العالم تجاه النخب والعولمة، غير أن هناك أيضاً دروساً من الخارج يمكن أن تساعد بايدن على التغلب على دونالد ترامب. وبالتالي، فإذا كان هناك مدّ يميني متشدد قد يجتاح الولايات المتحدة أيضاً، فإن الوضع ليس ميؤوساً منه بالنسبة لبايدن.

في كتابه الجديد القيّم «عصر الثورات»، يشير فريد زكريا إلى أن رد الفعل القوي ضد العولمة بعد أزمة 2008-2009 المالية قد غذّى الانتفاضات السياسية في العديد من البلدان الغربية، بالتوازي مع صعود «حركة الشاي» واستيلاء القوميين العرقيين على الحزب «الجمهوري» في الولايات المتحدة. وكتب زكريا يقول: «نجحت هذه الأحزاب المناهضة للعولمة في استغلال القلق الاجتماعي والاقتصادي لملايين الناخبين»، وقد تكون هذه الروايات غير صحيحة أو مغرقة في التبسيط، ولكنها تعيد تشكيل الغرب.

وربما يجدر بكل من لا يستطيع تخيل فوز ترامب مرة أخرى تأمل ما حدث في بلدان نعتبرها ليبرالية اجتماعياً. فقد أصبح حزب «ديمقراطيي السويد»، ذو الجذور النازية الجديدة، ثاني أكبر حزب في البلاد. وفي ألمانيا، بات حزب «البديل من أجل ألمانيا» القومي المتطرف يتصدر المشهد السياسي في الأجزاء الشرقية من البلاد. وإيطاليا تحكمها حالياً رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني، الذي تربط حزبها اليميني علاقات بـ«الفاشيين الجدد». فما هي الدروس التي يمكن لبايدن استخلاصها من هذا التوجه العالمي؟

الدرس الأول هو أن الأحزاب اليمينية المتشددة «تقتات جميعها على المشاعر المعادية للهجرة»، كما تقول «سيلفي كوفمان» من صحيفة لوموند الفرنسية. وإحدى الاستراتيجيات الممكنة لحل هذه المشكلة، والتي اتبعتها رئيسة وزراء الدنمارك الليبرالية محققة بعض النجاح، تتمثل في الإشارة إلى أن «اليسار» أيضاً يستطيع الحد من الهجرة. والحق أنني لا أشعر بالارتياح تجاه هذه الاستراتيجية. فأنا أنفر من حملة ضد المهاجرين في الدنمارك، كما أنني أشعر بالقلق من سعي بايدن لإظهار مدى حزمه بخصوص موضوع الهجرة. فأنا موجود فقط بسبب التعاطف الذي أبدته الولايات المتحدة تجاه اللاجئين عام 1952 عندما استقبلت والدي.

غير أنني أشعر برعب أكبر إزاء فكرة عودة رجل لا يتوانى عن شيطنة المهاجرين وفصل الأطفال عن آبائهم على الحدود إلى البيت الأبيض. ولهذا، وبغير قليل من التردد والعصبية، أقول إنني موافق على موقف بايدن القاسي على نحو متزايد بشأن الهجرة، ثم إنه سياسي، يمتلك ميزة لأنه يقترح اتخاذ إجراءات صارمة في وقت يبدو فيه «الجمهوريون» قلقين ويعرقلونها. بايدن لم يغتنم هذه الميزة، ولكن المشهد الدولي يشير إلى أنه سيكون مستفيداً، إن فعل ذلك، إذ يمكنه أن يعلن على رؤوس الأشهاد بأنه عمليا هو الرجل الصارم والحازم بخصوص موضوع الهجرة، وليس ترامب.

أما الدرس الآخر المستفاد من عبر العالم الصناعي، فهو أهمية أن يبدي الليبراليون المتعلمون قدراً أكبر من الاهتمام تجاه الطبقة العاملة، التي مالت نحو اليمين في بلد تلو الآخر. ففي بريطانيا، يحاول «حزب العمال» حالياً استعادة ناخبي الطبقة العاملة بمزيد من الاعتدال في كل من السياسات والنبرة، وقد تكون محاولتهم ناجحة على اعتبار أن الحزب متقدم حالياً في استطلاعات الرأي.

وفي الولايات المتحدة، يبدو بايدن في وضع أفضل من بعض «الديمقراطيين» الآخرين لاستعادة ناخبي الطبقة العاملة، تماماً مثلما ساعدوه في الفوز في الانتخابات التمهيدية والانتخابات العامة في 2020. ذلك أن بايدن قد يكون الرئيس الأميركي الأكثر تديناً منذ عقود، كما أنه من أكبر المؤيدين للنقابات. وبدلاً من التعالي، يتحدث بايدن بصدق وتعاطف عن هشاشة الطبقة العاملة. ويحكي قصة مؤثرة أتمنى أن يشاركها مع الناس أكثر مستقبلاً: فأثناء عمل والده في وكالة لبيع السيارات، حضر هذا الأخير حفلاً أقيم في الوكالة بمناسبة أعياد الميلاد، ولكنه شعر بالتقزز حينما ألقى مالك الوكالة للموظفين دولارات فضية على الأرض ليتهافتوا عليها. فانسحب والد بايدن من الحفل وترك تلك الوظيفة، وحرص على أن يعلّم ابنه أن الوظيفة لا تتعلق بالأجر فقط وإنما بالكرامة أيضاً. والأكيد أنه بقصص كهذه، يمكن لبايدن أن ينافس على أصوات الناخبين من الطبقة العاملة (إن خرج وخاض حملات انتخابية أكثر!). ومما يصبّ في مصلحته أن منافسه ملياردير يواجه عشرات التهم الجنائية التي تعقّد أي جهد لترشحه كشعبوي مناهض للفساد.

ثم إن سياسات بايدن لها أيضاً صبغة شعبوية مشروعة، بدءاً من دعوته إلى فرض ضرائب أعلى على الأغنياء إلى تحقيقه القياسي لوعد تحديد سقف لأسعار الأنسولين -- وهي قضية بالغة الأهمية بالنسبة لـ8 ملايين أميركي يحتاجون إليه. باختصار، يمكن القول إن بايدن يمتلك، بخصوص قضيتي الهجرة والسياسة الاقتصادية، وبخلفيته وإيمانه، فرصة للتفوق على غريمه الشعبوي في الشعبوية!

*كاتب وصحافي أميركي.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»