من أكثر ما وجدتُني أتساءل حوله في هذا الشهر الكريم هو: ما أكثر ما يطلبه، من النّاس، الإسلام؟ وبعد تردّد النّظر رجَّحتُ أنّ أهم مطلوب في ديننا هو المعرفة بالله تعالى، فلا مدخل إلى شريعتنا إلّا هذا المدخل، إذ المعرفة تولد الحبّ، والحبّ يؤجج الإيمان، وفي ظل المحبوب تتسع المغفرة والرحمة، وتنشط الأعضاء لتلبية طلبات المحبوب، وتصبح الأخطاء والزّلات أشبه بضروب من الأذى التي لا تضرُّ طهارة البحر في شيء.
لعله لهذا السبب رفع بعض فقهائنا شعار أول الواجبات النّظر، وأوْلَى الفلاسفةُ والعارفُون المعرفةَ بالله الأهميةَ القُصوى، وكان من نتائج تفكيرهم هذا التّقابلُ بين أهل المعرفة بالله وأهل الغرّة بالله، وَوَعْدِهم الأولين بالسّعادة، وتَوعُّدِهم الآخرين بالشّقاء. وتساؤلهم عن الطّريق الموصلة إلى المعرفة بالله، فتفرّعَتْ بذلك طُرُقهم:
قال ابن رشد، معرفة الله تكون بمعرفة ما خلق وأبدع، ومن هنا عبارته الشّهيرة: «كلّما كانت المعرفة بالصّنعة أتمّ كانت المعرفة بالصّانع أتمّ»، وحثّ فيلسوفنا على توجيه العناية إلى الموجودات لتأمّل صنعتها ونظامها، وارتباط الأسباب فيها بالمسبّبات، واعتبر ذلك درساً للقرآن الكريم، بل اعتبرها أجلّ عبادة شُرعتْ، إذ يدور القرآنُ كلُّه على عبادة التّفكّر والاعتبار. فلا غاية أسمى ولا مقصد أنبل من معرفة الله، إذ هو أوّل مطلوب، قال تعالى: (فاعلم أنّه لا إله إلا هو/محمد:19).
الطّريق الثاني لمعرفة الله، الارتياضُ في أسمائه الحسنى، وقد نبّه الله تعالى على ذلك بقوله: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها/ الأعراف:180)، ونبّه عليه الصلاة والسّلام: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة/صحيح البخاري)، ومن أهم من كتب في الموضوع أبو حامد الغزالي في كتابه (المقصد الأسنى). لا يُظهر الغزالي ها هنا رضاه عن الطّريق الأول، ويعتبر أن الله «قصّ أجنحة العقول» عن معرفته، «ولم يجعل السّبيل إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته»، ورغم أن القوى البشرية، عنده، قاصرة عن «أن تسلك في صفات الربّوبية سبيل البحث والفحص والتّفتيش»، فإنه يؤكد أن العارف الواصل لا ينبغي عليه الإفصاح عن «كُنْه الحق»، فـ«من عرف الله تعالى فالصّمت له حزم،.. [بل إن] من عرف الله تعالى كلَّ لسانُه». إنّ معرفة الله، عن طريق التفكر والتّماهي الدائم في أسمائه الحسنى، ممكنةٌ إذن، لكن عند حُصولِ المعرفة يصبح مقام الصّمت آكد، لأن هذا مما لا يمكن أن تتَصرَّف فيه العبارات، ويُتداوَل على الألسنة، فضلاً عن ذلك، لا يجوز مخاطبة النّاس بما لا يدخل في نطاق فهمهم.
الطّريق الثالث طريق المجاهدة، فقد اعتقد فريق من أهل الإسلام أن القلب هو محلّ معرفة الله، ولا يمكن أن تحلّ معرفة الله في هذا القلب دون أن يخضع لعملية التّطهير، ومن هنا شعارُهم الشهير: (التّخلية قبل التّحلية)، إذ في عُرْفهم أن القلب الذي تملأه المُهْلكات، التي ذكرها الغزالي في إحيائه، لا يمكن أن تحلّ فيه معرفة الله إلاّ أنْ يَطَّهّرَ من أدْرَانه، فذلك القَمينٌ وحدهُ أن يجعل معرفة الله ممكنة، ويعضدُ هذا المذهب ظاهر قوله تعالى: (واتّقوا الله ويعلمكم الله/البقرة:282)، فليس من علمٍ أسمى من العلم بالله، ولا يحصل إلا بالتّزكية عندهم.
وأخيراً، فإن الطّرق إلى معرفة الله كلّها تجمّعت في القرآن الكريم، وشهرُ رمضان شهر تجريب الطرق الممكنة، من تفكر واعتبار، ومن دراسة لأسماء الله الحُسْنى، ومن تزكية للنَّفس من العوارض الشهوانية، لعله يَرْشَحُ من طريق منْها النّور الذي يضيء القلبَ بمعرفته سبحانه، وذلك هو المطلب العزيز لكل مسلم.
*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية