منذ فترة قصيرة فقط، عرفت أن السيدة العظيمة فيروز تحمل حزناً خاصاً كأم.
للسيدة فيروز، ابن أصغر من زياد الرحباني بعامين، أي أنه من مواليد عام 1958، لكنه من ذوي الاحتياجات الخاصة، وما تيسر من معلومات حوله راشح من خلال السيدة فيروز، وفيه أنها ومنذ ولادة ابنها «هالي»، وهي التي ترعاه شخصياً في كل شؤون حياته، وأنها ترفض خدمة الآخرين لابنها.
ولطالما حيّرني هذا الحزن الشفاف الذي يحيط بالسيدة فيروز حتى في أكبر حفلاتها وأكثرها نجاحاً، وفي مقابلاتها الإعلامية الشحيحة أصلاً، تلاحظ أنها تعطيك لمسةَ حزن لا تكاد تتلمسه في حديثها. والسيدة فيروز لديها حس ساخر تكثفه في عبارة لاذعة تصيغها على شكل سؤال «تهكمي» غالباً حتى لو كانت تجيب عن سؤال ما.
صادف الأمس ذلك الانقلاب الربيعي الذي قرره العالَم عيداً للأم، والتصادف مقصود، فالربيع انتعاش وتورد وخصب وحياة يانعة جميلة، وهي سمات أُمنا الطبيعة في أكبر تجلياتها الحنونة علينا في هذا الكوكب الكروي، لذا كان الربيع متزامناً مع تذكر الأمومة والاحتفال بها وتخليد دورها.
كل رواية أو عمل فني كانت الأم محوره الأساس، وجدَ فرصتَه للانزلاق بانسيابية تامة وسرعة قياسية إلى قلب المتلقي، قارئاً كان أم مشاهداً، ليس بدءاً من ملحمة مكسيم غوركي «الأم»، والتي عالج فيها الثورة المجتمعية في روسيا من خلال تحولات أم بطل روايته «بول»، وليس انتهاءً كذلك بالأفلام السينمائية التي طرحت فكرة البطولة في دور الأمهات الصابرات المكافحات.
حتى في الأعمال السينمائية أو الدرامية التي قد تكون فيها الأم ظلاً للرواية، وليس محوراً أسياسياً في أحداثها وشخصياتها، فإن مشهد «الأمومة» يبقى الأكثر رسوخاً في الذاكرة الوجدانية البشرية ضمن مشاهد السينما والمسرح التي عرفها الناس حول العالم منذ وقت طويل. وما نزال كلنا نتذكر، وحتى يومنا هذا، مشهدَ الممثلة العالمية إيرين باباس، وهي تؤدي دور الأم (مجرد أم) في تلك اللحظة التي تحضن فيها طفلَها الصغير، وهما يراقبان إعدام عمر المختار، بينما رأينا دورَها في «زوربا» الذي أدت فيه دور الأرملة الوحيدة، وهو ينسحب إلى الخلف قليلاً رغم كل إبداعها الفني في العمل الخالد.
رحلت الفنانة كريمة مختار عن عالمنا، وهي تحمل لقب «ماما كريمة»، وذلك بالأساس، لأنها استطاعت بفطرة الأم نفسها، وبطيبة قلبها وسمو روحها أن تجعل من نفسها أيقونةَ هذا الدور على مدى سنوات طويلة من عمر السينما المصرية. وكانت ذروة التجلي التي لا تنسى عند السيدة هدى سلطان في دور الأم في ثلاثية نجيب محفوظ التلفزيونية، لتنافس عظمة الراحل الكبير محمود مرسي في أدائه الأسطوري.
تحتاج المرأة مثل الرجل ألف قناع في حياتها خصوصاً في زماننا هذا، لكنها حين تكون أماً فهي تنزع كل الأقنعة وتعيش بوجهها الحقيقي.
عندي انحياز خاص لحزن السيدة فيروز بشكل خاص، وأهمس لنفسي مدندناً من أغنية كتبها ابنها زياد: «هيدي أمي، بتعتل همي».
كل عام وأمي بخير، والأمهات جميعاً بألف سعادة وصحة.

*كاتب أردني مقيم في بلجيكا