في زمن نتسابق فيه نحو الابتكار والتطور تبرز الحاجة الماسَّة إلى إعادة تعريف آليات العمل الإداري، وتحريرها من عقال البيروقراطية التقليدية؛ وفي هذا السياق يأتي نداء صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، إلى «تصفير البيروقراطية الحكومية» خطوةً جريئةً نحو تبني نهج إداري أكثر كفاءة وفاعليَّة. وهذه المبادرة أكبر من كونها مجرد دعوة إلى تحسين الأداء والإنتاجية؛ إذ تُعد طموحاً لإحداث نقلة نوعية في الكفاءة والتميز على مستوى دولة الإمارات العربية المتحدة، وتعكس رؤية استشرافية لتجاوز التحديات، واغتنام فرص التغيير بفاعليَّة وسرعة.
البيروقراطية نظام إداري يتميَّز بتقسيم دقيق للمهام والسلطات، وتطبيق مجموعة من القواعد والإجراءات الموحَّدة في تنظيم العمل داخل المؤسسات، تُحدَّد فيها الأدوار والمسؤوليات وفق هيكلية تنظيمية دقيقة ومفصَّلة لضمان تنفيذ الأعمال. وقد أسهمت البيروقراطية في تطوير كثير من النظم الإدارية المعاصرة؛ وبرغم ذلك يُنظَر إليها أحياناً بصفتها تحمل جانباً سلبيّاً؛ بسبب ميلها إلى الجمود، والتأخُّر في اتخاذ القرارات، ومحدودية المرونة؛ ما يعوق الابتكار، والاستجابة السريعة للمتغيرات. وعندما ينادي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم بـ«تصفير البيروقراطية الحكومية»؛ فهو يشير إلى ضرورة تقليل الإجراءات المرهقة؛ ويهدف إلى معالجة التحديات التي يمكن أن تفرضها البيروقراطية؛ عن طريق تيسير الإجراءات، وتحفيز بيئة عمل تتَّسم بالديناميكية والكفاءة؛ وذلك لتحقيق الأهداف الطموحة، والاستجابة الفعَّالة للتحديات في سباق عالمي سريع التغير.
ومن أمثلة نجاح «تصفير البيروقراطية» ما نشهده في دول مثل سنغافورة، أو مؤسسات تجارية مثل شركة «تسلا»؛ فقد تمكَّنت سنغافورة من تحقيق تحول ملحوظ في تصفير البيروقراطية؛ ما أسهم كثيراً في تسريع وتيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية فيها؛ كما أنها استطاعت جذب مزيد من الاستثمارات، وتشجيع روح المبادرة عن طريق تيسير إجراءات الحصول على تصاريح الأعمال وتراخيصها. وعمِلت الحكومة السنغافوريَّة على تسريع مشروعات البنية التحتية، وتحسين الخدمات الصحية؛ بفضل تقليل العراقيل الإدارية، وتحسين كفاءة العمليات الحكومية؛ وقد أثمرت هذه الإجراءات المنهجية بيئة عمل تنافسية، ومستوى معيشة عالياً لمواطني سنغافورة. وفي الجانب الآخر استطاعت «تسلا»، بقيادة إيلون ماسك، تحقيق نجاح عالمي منقطع النظير في صناعة السيارات الكهربائية والطاقة المتجددة؛ بفضل تبنيها نهج تصفير البيروقراطية؛ وزاد الهيكلُ التنظيمي المسطَّح، الذي وضعته، مرونة القرارات وسرعتها؛ ما مكَّن الشركة من الاستجابة بكفاءةٍ لتحديات السوق، وتوقعات العملاء؛ كما أسهم التركيزُ على الابتكار واستخدام التكنولوجيا في تحسين عمليات التصنيع والمبيعات، وزيادة الإنتاجية والجودة؛ في حين عزَّز نموذج المبيعات المباشرة للمستهلكين، واستجابة «تسلا» السريعة للملاحظات تقديم تجربة عملاء متميزة، والحفاظ على الريادة في الابتكار؛ ونتيجة لهذه الإجراءات تمكَّنت الشركة من تسريع وتيرة الابتكار، وتعزيز مكانتها بصفتها رائدةً في السوق العالمية للسيارات الكهربائية.
وتستلهم دولة الإمارات العربية المتحدة؛ في سعيها نحو التميز والابتكار، تجارب رائدة من حول العالم لتشكيل رؤيتها؛ وتؤكد -بتبنيها مبادئ تصفير البيروقراطية- ريادتها في اعتماد الحلول المبتكرة في تعزيز الكفاءة والفاعليَّة الإدارية بنجاح وحكمة؛ وتدعو بهذه المبادرة إلى إعادة النظر في النماذج الإدارية، وتشجع على الحوار والبحث في كيفيَّة تطبيق هذه المبادئ لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، والاستجابة الفعَّالة للتحديات العالمية. ويأتي نداء صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم خطوة استباقية، ورؤية ثاقبة نحو إحداث تغيير جذري في المنظومة الإدارية لدولة الإمارات، ترتكز على الكفاءة والفاعليَّة؛ وهذه الدعوة ليست للتحول في دولة الإمارات فقط، بل هي إلهام للعالم كله بأن الابتكار في أساليب الإدارة هو الأساس لمواجهة تحديات المستقبل بقوة؛ وتصفير البيروقراطية -كما يرى سموه- ليس هدفًا؛ بل رحلة نحو الامتياز، ويعزز مكانة دولة الإمارات بصفتها نموذجاً عالميّاً للحكم الرشيد، والإدارة الفعَّالة.
*مدير عام مركز إدارة الطوارئ والأزمات والكوارث لإمارة أبوظبي بالإنابة